الأربعاء، 8 فبراير 2017

المجتمع والعلم والدين: مأزق "الفيزياء" بين الدينيين وخصومهم



أخذت حاسوبي المحمول إلى مشرف رسالتي للدكتوراه في قسم هندسة الطيران والميكانيكا في جامعة "تكساس أوستن"، لأطلعه على نتائج لمشكلة فيزيائية كنت أعمل عليها لأشهر، وأبلغته أنني لم أتوقع تلك النتائج ولست راضياً عنها، رغم مراجعتي للمعادلات الرياضية وللبرنامج (code)، في البداية لم يناقشني في النتائج بل أشار إلى جهاز في زاوية الغرفة يتكون من زنبرك (Spring) مثبت من أعلاه، وتتدلى أسفله قطعة حديدية، وبجانب الزنبرك "سيشوار" (مجفف للشعر) موجه باتجاهه، وسألني: لو شغلنا مجفف الشعر (يخرج هواءً ساخناً) وارتفعت درجة حرارة الزنبرك ماذا تتوقع؟
فقلت: سيتمدد الزنبرك ويلين أكثر، وسيؤدي لانخفاض القطعة الحديدية لأسفل.
قام الدكتور من كرسيه وذهب للجهاز وشغل مجفف الشعر، وإذا بالزنبرك ينكمش مع الوقت والقطعة الحديدية ترتفع إلى أعلى! فقال لي بعد ذلك: تنبؤاتنا وتوقعاتنا - وإن كانت مبنية على أساس علمي صحيح في حدود علمنا - ليست بالضرورة صحيحة!

المنطقة الخطأ:
تعاقدت شركة أخشاب مع مزارع على قطع أشجار لمدة يوم واحد في مكان محدد، بدأت الشركة أعمالها منذ الشروق، وكل شيء كان يسير وفق المخطط له، والعمل مستمر على قدم وساق، لكن قبيل غروب الشمس صعد أحد العمال أعلى شجرة وصاح برفاقه، إننا نقطع في المنطقة الخطأ!!
بغض النظر عن صحة هذه القصة من عدمها – والتي سمعتها من أستاذ لي عندما كنت طالباً في جامعة الكويت - لكنها تحاكي واقع الكثير من الدينيين واللادينيين الذين يجاهدون لنصرة عقائدهم وأيديولوجياتهم باستخدام العلوم الطبيعية، والفوضى الحاصلة في الساحة الثقافية قد تذهب بكل هذه الجهود، الأمر الذي يستدعي أن يصعد أحدهم بعيداً عن تفاصيل الخلافات العلمية لينظر ما إذا كانوا يتحركون في المنطقة الصحيحة من عدمه قبل فوات الأوان!!

بنية العلوم الطبيعية:
لحل الكثير من الإشكالات، فإنه يتطلب منا فهم كيفية بناء كل من العلوم والدين بشكل عميق، إن الطريقة - بشكل عام جداً - التي تنبني بها العلوم ليست بهذا التعقيد، إما النزول من أعلى (قواعد عامة) إلى أسفل (حالات خاصة)، وهذا غالباً معمول به في الرياضيات، أو العكس وهذا المعمول به في الفيزياء، أو كليهما، الحالة الأولى تسمى الاستنتاج "Deduction"، في هذه الحالة فإن صحة القواعد العامة يعني بالضرورة صحة الحالات الخاصة المستنبطة منها، ولكن في الحالة الثانية المسماة بالاستقراء "Induction" فإن بناء قواعد عامة من حالات خاصة - صحيحة محدودة العدد - ليس صحيحاً بالضرورة.
إن القواعد العامة – القوانين الفيزيائية مثلاً- المستنبطة من الحالات الخاصة لا تكون صحيحة إلا عندما تراعي هذه القواعد عدداً لانهائياً من الحالات الخاصة! إلا أن الوصول إلى عدد لا نهائي من الحالات الخاصة غير ممكن في الواقع العلمي (غير الرياضيات)، لذا بقدر ازدياد عدد الحالات الخاصة يكون ذلك داعماً أكثر لصحة القواعد العامة المبنية عليها.
والخلاصة هنا هي: أن القواعد العامة ليست بالضرورة صحيحة بشكل مطلق، لعدم إمكان القيام بعدد لا نهائي من التجارب المعملية (الحالات الخاصة)، بما في ذلك جميع النظريات الفيزيائية بلا استثناء.
إن عدد الحالات الخاصة الأخرى (التجارب التي لم نقم بها أو لم نفكر بها بعد والتي لم ندخلها من ضمن البناء النظري للقواعد العامة) لا نهائي، بعضها نسميه بتنبؤات النظرية، قد تتبع قواعدها العامة وتكون حينئذٍ داعمة لصحتها، وقد لا تتبعها فتكون دلائل جديدة على قصور في بنيتها الأساسية، الأمر الذي قد يقيد النظرية ويجعلها محدودة، وقد ينسفها بالكامل.
وعلى سبيل التوضيح، إن وجود دلائل على خطأ في نظرية ما - كنظرية التطور - لا يعني بالضرورة نسفها بالكامل، بل في أقل تقدير تقييدها في نطاق معين، وهذا ما حدث بالفعل لفيزياء نيوتن، فإن خطأها على المستوى الذري والسرعات العالية جداً لم ينسفها بقدر ما جعلنا أكثر دراية بحدود تطبيقها والاستفادة منها، والمتدبر في تاريخ النظريات العلمية يلاحظ أنه لا توجد نظرية واحدة لتفسير كل شيء، لكن توجد نظريات عديدة في ذات التخصص لتفسير بعض الأشياء، ومن يدرك كيفية البناء العلمي للنظريات سيخلع عدسة المثاليات التي تدفع الشخص إلى نسف كل النظريات!
إن التنبؤات التي تقول بها نظرية تأكدنا حتى الساعة من صحتها – ليست بالضرورة صحيحة، فهي ليست منحة نأخذها من النظرية ونحاجج بها، بل تدخل ضمن معايير لتقييم النظرية لا أكثر.. نحن هنا لا نبحث الفرق بين العلم والعلم الزائف، فهذا مبحث تناوله الكثير من فلاسفة العلم على رأسهم "كارل بوبر" و"توماس كان" و"امري لاكاتوز" وغيرهم، وقد أجادوا فيه كثيراً، وتتلخص أطروحاتهم في عبارة واحدة: (النظريات العلمية مثل بورصة أسهم الشركات، يتم إنشاؤها ثم يتم تداولها، مؤشراتها في صعود وهبوط مستمر مع كل اكتشاف علمي وتحديات جديدة، وقد تفلس في يوم من الأيام، دورها ليس تفسيرياً فقط بل دورها وصفي- تنبؤي وهذا هو المحك)، إنني في هذا النقاش أفترض جدلاً صحة نظرية علمية ما، وأحاول شرح عدم استطاعة بعض النظريات الصحيحة - مجازاً - البت به، ولا يجوز لنا القول بصحة نظرية إلا بصورة مجازية؛ لأن الإثبات بشكله الصحيح في الاستدلال الاستقرائي يتطلب عدداً لا نهائياً من الأدلة لبناء نظرية صحيحة، وهذا غير ممكن واقعياً كما أسلفنا ذكره، لذلك وعملاً بما هو ممكن واقعياً فإن القول بأن النظرية صحيحة ومثبتة لا يكون إلا بشكل مجازي، فقد وافقت فيه الافتراضات العلمية التجارب والتنبؤات في حدود ما نعلمه حتى الآن، أما الإثبات المطلق فقائم فقط في الرياضيات.. ورغم أن الرياضيات هي لغة الفيزياء، إلا أن الرياضيات تستطيع الإثبات والنفي المطلق في حالات كثيرة، وهذا ما لا يمكن التوصل إليه في الفيزياء، لكن كيف نفهم هذا التداخل؟ سيفيدنا هذا في التخلص من "اليقينية" التي يعيشها بعض المفتونين بالعلوم الطبيعية.
ولنضرب لذلك مثلاً: من أهم الأسئلة التي يبحثها أهل الرياضيات التطبيقية هي أحادية الحل الرياضي Uniqueness of Solution، بالإمكان في الرياضيات أن نجزم أن لهذا النظام الفيزيائي - إن وجد - حلاً واحداً فقط لا أكثر، وبالإمكان الجزم باستحالة وجوده (رياضياً)، وكذلك نستطيع أن نجزم بوجود عدد لا متناهٍ من الحلول، لكن المتخصصين يعلمون أن هذا الجزم بالتأكيد والاستحالة الرياضية "المنطقية" يمتد فقط في حدود التعبيرات الرياضية للقانون الفيزيائي الذي ليس بالضرورة معبراً عن الواقع الطبيعي ذاته، إن القوانين الفيزيائية وبطريقة البناء التي أسلفنا ذكرها، هي مجرد أفضل تصورات توصلنا إليها عن الواقع الفيزيائي –  من مشاهدات وتجارب خاصة محدودة العدد - وليست بالضرورة ذات الواقع، لذلك فخلاصة القول هنا هي أن الإثبات الرياضي والاستحالة الرياضية لا يمتدان للواقع الفيزيائي، بل لتصوراتنا عنه فقط - التي لسنا متيقنين من صحتها.
الأمر الآخر المتعلق بالرياضيات والفيزياء هو أن الفضاءات الرياضية التي تنبني عليها المعادلات الرياضية أوسع بكثير من الفضاء الفيزيائي (الذي نحسه)، والذي هو جزء مقيد منها، ليس كل ما يحدث في الرياضيات بالضرورة حادثاً فيزيائياً.
على سبيل المثال: أستطيع في الرياضيات أن أبني فضاء رياضياً مكوناً من عدد لا متناهٍ من الأبعاد المتعامدة (رياضياً)، هل هذا ممكن وجوده فيزيائياً؟ والجهل بهذا الأمر جعل بعض الناس يشطحون بأفكار وتفسيرات وخيالات، لها في الرياضيات ما يدعمها لكن ليس بالضرورة أن يكون لها وجود فيزيائي كالأكوان المتوازية مثلاً! وبخصوص الخيال ، فإننا نأكد على أهميته ودوره في النهضة العلمية والذي ينحصر في التحفيز الذهني فقط لا أن نعتقد سلفاً بصحته ونحاجج به.
بالرغم من اكتساب العلوم الطبيعية ثقة كبيرة لدورها الاستثنائي في تطور البشرية، إلا أن بعض الناس رفعوها لمرتبة الرياضيات، وبعضهم الآخر تعامل معها ككتاب مقدس لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.. وهناك - مع الأسف – من يرتكب مجازفات علمية غير مدرك لتبعاتها، كالقول: إن الفيزياء تبطل الرياضيات (التناقض المنطقي مثلاً)، وكأن الفيزياء تبطل القواعد الرياضية التي بنيت من رحمها، فهي بذاتها تبطل ذاتها، الأمر الذي يبطل حجيتها هي على الرياضيات، فيكون الأمر كله باطلاً في باطل!

الأيديولوجيا والعلم:
حينما لم يواكب مسار كوكب "أورانوس" قوانين نيوتن - التي تم مراراً إثبات صحتها في ذلك الزمن – قام بعض أنصار النظرية بحساب موقع وكتلة كوكب (افتراضي) مسؤول عن انحراف كوكب "أورانوس" عن المسار المفترض له ضمن قوانين نيوتن، والذي بالفعل تم اكتشافه عام 1846م، واسمه كوكب "نبتون"، وهو أول كوكب يتم اكتشافه عبر المعادلات والتنبؤ الرياضي.
لكن حينما تمت ملاحظة انحراف كوكب عطارد عن مساره – المتوقع له ضمن قوانين نيوتن - تنبأ بعض العلماء بوجود كويكب حوله يتسبب في هذا الانحراف، وهو الكويكب الذي لم يشاهده أحد حتى الآن، إلا أنه وبعد زمن تم تفسير هذا الانحراف من خلال النظرية النسبية لأينشتاين، فبدلاً من مراجعة قوانين نيوتن والشك فيها تحركت أدمغة بعض الباحثين في فلك نظريات نيوتن.
هذا مثال بسيط يبين كيف تكتسب بعض النظريات قوتها المعرفية مع بعض الاكتشافات التي تتحول مع الوقت إلى أيديولوجيا تعمي الباحث عن الحقيقة، مشهد يتكرر والتاريخ يعيد نفسه.
قد يكون العكس أحياناً وهو أن بعض الاكتشافات التي تتعارض مع نظرية ما تجعل بعض الباحثين ينسف النظرية بشكل كلي، فبين اكتشاف كوكب نبتون وانحراف كوكب عطارد لا يجوز لنا أن نكابر بكمال نظريات نيوتن ولا نسفها بالكامل، لكن عرفنا حدودها ودقتها! إن الأيديولوجيا قادرة على اختلاق كل شيء ليس التزوير والكذب فقط، بل حتى محاولات علمية محترمة لأجل الانتصار في المعارك المعرفية.
على صعيد آخر، الكثير منا على علم بموقف الكنيسة في العصور القديمة من العلم، وكيف تعاملت مع "كوبرنيكوس" و"جاليليو" وزملائهما بخصوص مركزية الشمس، وبعضنا الآخر على علم بما حصل في عالمنا الإسلامي، حيث سبق وجزم بعض العلماء الشرعيين – مع كامل التقدير والاحترام لهم - بأن الأرض مسطحة وثابتة مستدلاً بآيات وأحاديث، وهذا ما تأكد لنا خلافه، الأمر الذي يستدعي طرح أسئلة مهمة: هل ما ذهب إليه أهل العلم الشرعي في المثال السابق يقع ضمن ما هو قطعي في حدود الاستدلال الشرعي، أو هو ضمن تفسيرات واجتهادات الخلاف فيها واسع؟ هل اجتهادات أهل العلم الشرعي هي الدين ذاته أم شيء خارج عنه؟

العلم والعلميين X الدين والمتدينين:
مثلما لا يرى بعض الناس الدين إلا من خلال ممارسات وأقوال المتدينين فقط، فهناك أيضاً من لا يرى النظريات العلمية إلا من خلال ممارسات وأقوال أنصارها لا أكثر، إن الدين والعلم أمران منفصلان عن أهلهما، إن هناك الكثير من الأمور المؤثرة التي تتدخل في صياغة الآراء العلمية والتفسيرات الدينية: إدراكات ذهنية متفاوتة، بيئة اجتماعية متنوعة، عوامل نفسية مختلفة، مدى وفرة المعلومات وكفايتها ...إلخ.
إن الحياد في ظل تأثير هذه الأمور مهمة شبه مستحيلة، الأمر الذي يستدعي الجهاد والصبر والتركيز، وقد يخطئ بعض الباحثين ليس لسوء نية وخبث، بل لعدم إدراكه لهذه العوامل التي صاغت آراءه العلمية أو تفسيراته واجتهاداته الشرعية.. هذا الأمر ينطبق على كلا المجالين الدين والعلم، ففي ذات الوقت الذي نقول: لا يجوز حصر الدين في ممارسات المتدينين وآرائهم ٫ نقول أيضاً: لا يجوز أن نحمل العلم أخطاء أهله من تفسيرات وآراء ... إن إدراك هذه النقطة الجوهرية في النظر إلى الأشياء بموضوعية وعدل سيدفع الكثير من اللادينيين إلى إعادة النظر في الدين، كما سيدفع أيضاً الكثير من أهل العلوم الشرعية إلى التراجع عن ظلم نظريات علمية بجريرة ممارسات وتفسيرات أنصارها.

بعثرة لا علاقة للعلم بها:
العلوم التجريبية كالفيزياء، والتي تتناول السلوك المادي تقوم على الشك الدائم، تولد فيها نظريات غير مكتملة النمو، تكبر مع الوقت، تنضج مع التحديات، أو تفتح لنا أبواباً أخرى قبل أن تموت، ليس للإيمان واليقين فيها موضع قدم، ليس لأحد قدسية ولا سلطة، ما كنا متأكدين منه في السابق لم نعد متأكدين منه في المستقبل، لكن الشيء الجميل الذي يحسب للعلوم الطبيعية هو أنها محايدة، تصحح ذاتها بذاتها مع الوقت، مبحثها مختلف عن مبحث علم النفس مثلاً.. لا يعلم بعض الناس كم هو مهم جداً إدراك منطقة بحث العلم حتى لا نكون في المنطقة الخطأ ونتجاوز حدودنا كعلميين ونحمِّل العلوم ما لا تحتمل.
إن الأديان - بشكل عام -  تتناول الجوانب الإيمانية والروحانية، وتقوم على الإيمان الدائم والتساؤل، ففي صحيح مسلم: روي عن سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم قوله: "نحن أحق بالشك من إبراهيم"، والمقصود هنا ليس الشك الديكارتي وإنكار وجود الله، بل التساؤل بغرض الاطمئنان لفهم أمر ما نؤمن به سلفاً كما وضحه سيدنا إبراهيم عليه السلام في القرآن: (قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي)، هي أمور لا يمكن معها الإثبات ولا النفي باستخدام علم يتناول السلوك المادي كالفيزياء مثلاً.
قد يقول قائل: هناك أثر مادي لبعض الأمور الدينية كشفاء مريض بسبب الصدقة والدعاء ونحو ذلك، وأقول: سبب عدم إمكان بحثه هو أمران؛ الأول: عدم توافر "انتظام الحدوث" وهو شرط من شروط البحث العلمي، فقد يستجيب الله الدعاء وقد لا يستجيبه، وقد يتقبل الصدقة وقد لا يتقبلها لحكمة غيبية يعلمها سبحانه، والثاني: البركة والنية غير قابلة للقياس المادي، بل هي أمور معنوية.. هي مشاهدات تقوي الإيمان لكن لا يمكن أن تخضع للعلوم التجريبية.
إن المباحث المختلفة لا تتعارض بالضرورة بل تتكامل، وخلطها بغير علم أنتج لنا فوضى معرفية، إن محاولة إثبات الجن والملائكة أو نفيهما بأبحاث مزورة كالذي حدث فيما يسمى بعلوم الطاقة كارثة، والجزم اليقيني بصحة تفسيرات نظرية التطور - لنقض الدين - جهل، الترويج للخيال العلمي - كما هو حاصل في الأكوان المتوازية - لأجل إثبات أو نفي قضية عقائدية لا تليق بأهل العلم الحقيقي، واتهام العلوم الطبيعية بقصورها في تناول الجانب الروحاني يدل على كارثة في فهم مناط البحث، ومهاجمة من يقول بأن نظرية الخلق نظرية غير علمية - بالمفهوم القائم في العلوم التجريبية - هجوم غير مبرر، وتفضيل نظرية التصميم الذكي على نظرية التطور يحتاج إلى إعادة نظر، والاستدلال بالنظرية النسبية لأجل دعم نسبية الأخلاق استدلال خاطئ تماماً (مثلاً النظرية النسبية لأينشتاين لها مرجعية ثابتة لا تتغير وهي سرعة الضوء الثابتة في الفراغ، والتي يفترض أنها السرعة الأعلى في الكون)، واستخدام قطة "شرودنجر" والرغوة الكمومية لإسقاط الدين كوارث معرفية تعصف بالمجتمعات... والأمثلة كثيرة.

نظرية المؤامرة:
التاريخ مليء بصراعات نمَّت الشعور بوجود مؤامرات، لأجل الحياد سأستعرضها بلسان حال قائليها، الأمر الذي لا يعني الرفض أو الموافقة، هناك مؤامرات داخل المؤسسات الدينية ضد العلم كالذي حدث بين "جاليليو" والكنيسة، وكذلك مؤامرات داخل المؤسسات العلمية ضد الدين كرفض دعاوى في الولايات الأمريكية منها ولاية "أركنساس"، حيث رفضت المحكمة طلب تدريس نظرية الخلق "التصميم الذكي" بجانب نظرية التطور في مادة الجيولوجيا، ومن يحاول النظر إلى هذه الأمور بهدوء وإنصاف، فإنه سرعان ما سيدرك الخلل الذي أدى إلى هذه الصراعات، ألا وهو تداخل مناطق البحث في بعضها بشكل فوضوي، كان على الكنيسة ألا تتدخل في مباحث العلم التجريبي ولا تقحم الدين فيها، والمحاججة العلمية في النهاية هي الفاصل، وأما بخصوص مطالبات تدريس نظرية الخلق في مادة البيولوجيا فهي مطالبات غير مبررة، لأن نظرية الخلق دينية محضة محلها حصص العلوم الدينية، وبعيداً عن الجدل الذي يدور حول هذه الأمثلة، فإن اليوم الذي تقتحم العقائد والأيديولوجيات العلوم فلا ترتجي تطوراً ولا علماً، وهذا ليس بالضرورة أن يكون علة في العقائد بل لأن بنيتها ومناط بحثها مختلف، بالإضافة إلى أن الشريعة الإسلامية مثلاً لم تأتِ ككتب علمية (فيزياء وكيمياء... إلخ)، بل جاءت لتناول الجانب الإيماني والروحاني وللإجابة عن أسئلة الوجود، وهي أمور لا يمكن بحثها في الفيزياء مثلاً، وحينما تناولت الشريعة الإسلامية الظواهر الكونية، كان هذا من باب الحث على طلب العلم، قال تعالى: (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق)، إن فك التشابك وإدراك اختلاف مباحث العلوم مهم، حتى لا تستهلكنا نظرية المؤامرة.

خارطة طريق:
بعد هذه الإطلالة عن العلم والدين ومجال كل منهما يمكننا الوصول إلى خارطة طريق تجمع شتات هذه المتفرقات، وتنظم كل واحدة منها في سلك واحد، وسنوضحها في النقاط التالية:
أولاً: الحياد في طلب العلم، ودراسة العلم من جذوره، والفصل بين العلم أو الدين وممارسي كليهما، والموضوعية في المحاججة، فقد تدرس أمراً علمياً يمكن تفسيره ضد تفسيرات دينية، هذا أمر طبيعي في علم بني بمجهود بشري محض آراء أهله قد تكون مؤدلجة. بالإضافة إلى إمكانية أن تكون المشكلة في التفسيرات الدينية التي تحتاج إلى إعادة نظر - ككروية الأرض مثلاً، والدين والعلم على حد سواء ابتليا بعبث بعض الباحثين المؤدلجين، لكن في النهاية لا يصح إلا الصحيح.
ثانياً: الفصل بين مباحث العلوم المختلفة مهم، وإدراك نقاط التلاقي إن وجدت مهم أيضاً، إذا كان التوصل لنظرية موحدة للفيزياء معضلة، فكيف بمن يريد خلط الفيزياء بعلم النفس والدين كما يفعله بعض المتورطين فيما يسمى بعلوم الطاقة! اليقينية والتشنج عند بعض الناس- مع أو ضد - تدفع بتمرير ما ليس للعلم والدين به صلة.
ثالثاً: لا يحق لنا أن نسمح لأهل الإعجاز العلمي للقرآن بالاستشهاد بالعلم التجريبي، وفي الوقت نفسه نرفض أحقية خصومهم في استخدام الأداة ذاتها، فرغم الإيمانيات الجميلة التي تتدفق على من يستمع للإعجاز العلمي في القرآن - وهي جوهر دوافع أهل الإعجاز العلمي في القرآن - إلا أن الطريق الذي يسلكه المتخصصون فيه طريق مليء بألغام لا نعلم أين ومتى ستنفجر، كيف نستشهد باكتشاف علمي لأجل دعم أمر ديني ونحن نعلم أننا قد نكتشف خلافه في المستقبل؟!
وكما أسلفنا ذكره فالقرآن لم يأتِ ككتاب فيزياء، بل أتى ليرتب حياة البشر، ويجيب عن أسئلة وجودية، إذا كنا نعتقد بكمال الدين ونقص العلوم التجريبية، فلماذا نستشهد بما هو أدنى على ما هو أعلى! يقول أحدهم: نأخذ من العلم ما يوافق الدين ونترك خلافه، وأنا أقول: هذه الانتقائية مغالطة كبيرة، فكما أن الدين ليس علبة شيكولاته ننتقي منها ما نشتهي، فالعلم ليس كذلك أيضاً، إن هذا السلوك العلمي المعوج فتح الباب للملاحدة للاستشهاد بما لا يفهم منه موافقة الدين.
رابعاً: لا يجوز أن ننخرط في ممارسات فوضوية تخلق تصوراً في عقول الناس أن الدين والعلوم أضداد، علمنا التاريخ أن رفض ما جاءت به العلوم التجريبية بحجج تستند على تفسيرات دينية متسرعة له آثار سلبية، ككروية الأرض مثلاً! الدرس من هذا هو ترك ما يستجد في العلوم لأهل التخصص والاستعانة بهم، فمثلاً لا يحق لي أن أثبت ولا أنسف نظرية التطور، ورغم قراءتي بعض ما كتب عنها كحال الكثيرين، إلا أن السبب يرجع إلى عدم تخصصي في علم البيولوجيا وتفاصيله، بالإضافة لعلمي مسبقاً أن النظريات عموماً يتم تحميلها ما لا يحتمل من خيالات وتفسيرات بعضها غير صحيح، لذا لا تكن سبباً في تحميل الدين القشة التي قد تقصم ظهر المجتمع.
خامساً: هذه الحقبة تتميز بانفتاح ثقافي كبير على العالم، وتطور هائل في التكنولوجيا، وسرعة وتيرة الحياة وتجدد القضايا، كل هذا يتطلب أن يعلم أهل العلوم الشرعية - على وجه التحديد - أن العالم الجهبذ الملم بكل شيء انتهى زمنه، وأن التخصص والفرق العلمية هي النجاة بعد الله، يجب أن يعي طالب العلم الشرعي أهمية التخصصات الأخرى، مثال لتبسيط الأمر: يجب أن يقوم على صياغة خطب الجمعة فريق من طلبة العلوم الشرعية بالتعاون مع متخصصين آخرين في علم النفس والاجتماع والطب النفسي... إلخ، ممن لهم علم بالأمراض الاجتماعية ووضع أفضل الحلول والعلاجات، ليس هؤلاء المتخصصون فقط بل جميع التخصصات متى ما كان هناك حاجة لذلك، إن ارتجال الخطيب واقتحامه باقي التخصصات مشكلة تحتاج نظراً دقيقاً، فالمجتمعات لم تعد مغلقة، والسوق مفتوح، والبقاء فيه للأكثر وعياً!

في هذا المقال حاولت قدر المستطاع تجنب الحديث العاطفي لأجل الانتصار لأحد، لست أبحث عن حل وسط لإرضاء طرفين، بل عن الحل الأصح الذي يرضي ضميري، هو مقال بطعم الحديث مع الذات، نسأل الله أن نكون وفقنا فيه، إن أصبت فبتوفيقه سبحانه، وإن أخطأت فمن نفسي والشيطان!

شكر وتقدير:
أشكر الإخوة الأفاضل على نقدهم الموسع لمسودة المقال بشكل أفادني كثيراً:
1.    د. عايد العجمي.
2.    د. هيفاء الرشيد.
3.    د. عبدالرحمن الصليلي.
4.    د. عبداللطيف الصريخ.
5.    د. محمد العوضي.
6.    أ. طارق المطيري.
7.    د. باسل الطائي.
8.    د. موسى الجويسر.
9.    د. خلدون مخلوطة.
10.أ. مبارك النومس.
11.د. محمد ضاوي العصيمي.
ذكري لأسمائهم لا يعني موافقتهم لكل ما ورد في المقال ، لكن من باب شكر وعرفان ، كما لن أنسى دور أخي الكبير، لا حرمني الله توجيهه، م. عبدالله عيد العتيبي، شكراً لهم جميعاً على إنضاج أفكار المقال، شكراً لوقتهم ومجهودهم.

هذا المقال بداية لسلسلة مقالات بعنوان "المجتمع والعلم والدين"، يسرني التواصل معكم حول هذا المقال أو ما قد يرتبط به:
1.    التعقيب على المقال في المدونة.
2.    على البريد الإلكتروني للمدونة: 4talalblog@gmail.com


أخوكم طلال عيد العتيبي

الخميس، 24 يوليو 2014

فوضى "علوم الطاقة".. بين مادية الغرب وروحانية الشرق!


 بقلم: طلال عيد العتيبي *

هل شعور الأم بابنها المسافر حينما يحدث له مكروه مصادفة أم ماذا؟ هل هناك من ينفي وجود حالات عديدة لمريض تسوء صحته حينما يمر في حالة يأس ومشاعر اكتئاب؟ أوليس من السذاجة إنكار وجود علاقة بين التفاؤل/التركيز وإنتاجية الإنسان؟ هل الرؤيا في المنام التي تحققت عند بعض الناس كذبة؟ هل العين التي تصيب بها النفس الخبيثة المحسود مجرد وهم؟ يقف طالب الحقيقة من هذه الظواهر الكونية موقف المتسائل الذي يبحث عن أجوبة شافية.
 
الحس المشترك:
لا يصح أحيانا الجدل فيما هو متفق عليه بالإجماع، فالحس المشترك العام بين الجميع يؤكد فكرة "ارتباط الأفكار والمشاعر بالسلوك المادي". إن خوف الإنسان فجأةً (مشاعر نتيجة فكرة) يجعل نبضات قلبه تتسارع عن معدلها الطبيعي ويتصبب جبينه عرقاً (سلوك مادي). كما إن قلق الإنسان قد يتسبب في اضطراب قولونه العصبي، وغضب الإنسان قد يؤدي إلى ارتفاع في ضغط الدم. كل هذه الأمثلة الواضحة جدا تؤكد على ما هو معلوم بالضرورة وهو أن هناك ارتباط وثيق جدا بين الفكرة والسلوك المادي. لذلك لا يصح الحديث أبدا عن احتمال وجود هذا الارتباط من عدمه، ولا تكذيب مثل هذه الظواهر الكونية. كل هذا يدخل ضمن ما هو متفق عليه بالحس المشترك العام. لذا يجب أن يصب جل جهدنا وبحثنا لفهم هذا الترابط بين الفكرة والشعور والمادة لا أكثر. لكن قبل الخوض في أمر معقد كهذا، يجب علينا فهم الصراع العالمي الحالي بين مادية الغرب وروحانية الشرق، وحتى نستفيد من المطروح ولا نكون ضحية الإلحاد الغربي ولا وهم وخرافة العقائد الشرقية البوذية وغيرها.

الاتجاهات المتعاكسة:
عصفت تحولات ثقافية حادة بالمجتمع الغربي في صراعه مع الكنيسة والإقطاعيين لسنين طويلة انتهت بانحسار الدين وانحصاره في المعابد فقط، سبقت هذه التحولات محاكمات دينية لعلماء فلك وفيزيائيين عمالقة خالفوا في أفكارهم العلمية الاعتقادات الدينية التي كانت تفرضها الكنيسة، ففي عام 1543 طلب كوبرنيكوس (Nicolaus Copernicus) من طلابه نشر كتابه وهو على فراش الموت، والذي يثبت من خلاله أن الشمس هي مركز الكون وليس الأرض، ولقد تأخر في طلبه هذا سنين طويلة خوفا من الكنيسة، لكن بعد قرابة 60 عاماً تم حرق العالم جيرانو برونو (Giordano Bruno) أمام الملأ لأنه أسهم في نشر أفكار كوبرنيكوس القائلة بمركزية الشمس. ولم يسلم أيضا عملاق الفيزياء جاليليو (Galileo Galilei) من عقوبة الإقامة الجبرية التي فرضتها عليه الكنيسة بسبب آرائه العلمية. إن هذه الدكتاتورية أشعلت الثورات بأوروبا والتي انتهت بانتصار العقل الغربي المتسائل على رجعية الكنيسة آنذاك، ولتفتح الآفاق أمام العقول الغربية في تناول مختلف القضايا الإنسانية والفيزيائية بحرية دون أي مرجعية دينية. إن سفك الدماء ومحاكم التفتيش التي طالت العقول الأوروبية وعاثت في بلادهم الفساد، كونت ردة فعل حادة على الدين الذي تم استغلاله من قبل الكنيسة أبشع استغلال.
بعد هذه الحقبة الزمنية، اتجه البحث العلمي - الفيزيائي تحديدا - إلى تناول الظواهر الكونية رافضاً كل التفسيرات الدينية التي كانت تعزو التغيرات المناخية (مثلاً) لغضب إله معين ورضى إله آخر. أما في القضايا التي تعتني بدراسة سلوك الإنسان (غرائزه ودوافعه وعلاقته بالمجتمع... إلخ) فمدارس علم النفس المختلفة تتناول هذا الأمر في صورة مناهج إحصائية تحليلية أكثر منها مناهج مختبرية. لا يعترف المجتمع الغربي إلا بما هو مثبت تجريبيا وإحصائياً، مهمشا مختلف الآراء الدينية التي لا تستند إلى دليل مادي.
مع غياب الكنيسة وتمدد المجتمع العلمي توالت ثورات علمية هائلة على كافة الميادين، والتي بدورها أثمرت تكنولوجيا غيرت جوانب الحياة المختلفة (الاقتصادية والسياسية... إلخ) مما أكسب الغرب ثقة كبيرة مقارنة بباقي المجتمعات، أخذ بعدها الإلحاد الغربي في النمو متسلحاً ببعض النظريات العلمية والتي ثبت بعضها بالتجربة، كقانون حفظ الطاقة، وبعضها ما زال عليه جدل علمي واسع كالداروينية. فمثلاً يستدل بعضهم بقانون حفظ الطاقة* القائل بأن "الطاقة لا تفنى ولا تستحدث من عدم" لينكر قدرة الإله على الخلق من العدم، والتي من مقتضياتها الكفر بفكرة وجود الخالق. وبالرغم من مادية الأدوات العلمية التي أدت الى نشوء مثل هذه النظريات، إلا أن العقل الغربي استخدمها في إنكار وجود الخالق والدين بالتبعية وتهميش -إن لم يكن إعدام- أهمية ما هو مدرك بالمشاعر والروحانيات، والتي لا تخضع لأدوات القياس المادية التي أنشؤوها.
* قانون حفظ الطاقة: أوجد قانون حفظ الطاقة لضرورة رياضية (رياضيات) عند دراسة نظام فيزيائي مغلق، وذلك ليتمكن المهندس مثلاً من حساب الطاقة المتراكمة داخل النظام من خلال قياس الطاقة الداخلة والطاقة الخارجة. فلا سبيل لبناء التكنولوجيا من دون هذا القانون. لكن! ماذا عن الكون ككل هل هو نظام مفتوح أم مغلق لكي تنطبق عليه المعادلة؟ أليس هناك احتمال عدم دقة هذا القانون في حدود صغيرة جدا ليست مدركة بأدوات القياس الحالية. يجب أن يفهم بأن هذا القانون أوجد لدواعٍ رياضية وفيزيائية محدودة لا بعد إلمام بكافة الأنظمة الكونية. إنها فرضية علمية مادية نجحت نتائجها في حدود قياساتنا الحالية.
            يحسب للمدرسة الغربية انضباط مناهجها العلمية في الاستنباط والاستدلال والإثبات، إلا أن توجهها المادي البحت سواء في البحث العلمي أو أثره على الحياة الاجتماعية أحدث فراغاً روحياً كبيرا في المجتمع الغربي، لم يستطع معه الصمود أمام المدرسة الشرقية التي تعلي من أهمية الروحانيات والمعتقدات كمؤثر مقارنة بالسلوك المادي كمتأثِر. هذا ما نقصده بالاتجاهات المتعاكسة (روحانية الشرق ومادية الغرب). إن غزو العقائد الشرقية للغرب والتي تقدم تفسيرا لبعض الظواهر (بغض النظر عن مدى صحتها) حول تاثير الأفكار على السلوك المادي، أحدثت هزة ثقافية عنيفة وصلت موجتها لمجتمعاتنا الإسلامية، إن هذا الصدام صاحبه تخبط في المدرسة الشرقية الروحانية وهز أعمدتها أمام صلابة المناهج العلمية للوسط الغربي. فانحصرت محاولاتهم في استخدام الأدوات الغربية العلمية ذات الطابع المادي لإثبات تفسيراتهم الغيبية لعالم الروحانيات. ومنها - على سبيل المثال لا الحصر - استخدام مصطلح الطاقة والذبذبات والجذب الفيزيائي وغيرها من المصطلحات العلمية مادية الطابع في غير موضعها مما أحدث صراعاً مضطرباً بين هاتين المدرستين المتناقضتين.
            يحسب للمدارس ذات الاتجاه الروحي - ومنها المدرسة الشرقية - أنها استفزت المدرسة الغربية لبحث ظواهر روحانية وحالات استثنائية بطريقة علمية، لتدفعها للتخلي عن ماديتها البحتة وإبراز أهمية إنشاء أدوات قياس مختلفة قادرة على قياس البعد الخامس ألا وهو الروح، أو سمه ما شئت، على أن تكون متكاملة وقادرة على تناول وتفسير قضايا مثل التخاطر وعلاقة الأفكار بالسلوك المادي. إن الإلحاد الغربي يتراجع أمام هذه الخطوة الجريئة التي تحث على تناول العامل الروحي في تفسير القوانين الكونية، متخلياً بذلك جزئياً عن إلحادية البحث المادي ناقص الأركان. ومع هذا كله فإن المدرسة الشرقية تقع في خلل فادح سنتطرق له خلال هذ المقال. 

الأداة المادية والروحانيات:
إن القوانين الفيزيائية تتناول الظواهر الكونية من أربعة أبعاد: ثلاثة للمكان (طول، عرض، ارتفاع) ورابعها الزمن. إن القوانين الفيزيائية لا تحكي بالضرورة واقع قوانين الطبيعة لكنها تمثل أفضل تصوراتنا عنها. إن القوانين الفيزيائية تتناول السلوك المادي فقط "الأبعاد الأربعة" دون الأخذ بعين الاعتبار البعد الخامس "الروح" مجبر أخاك لا بطل (سنبحث هذا الأمر في الفقرة اللاحقة)، لينحصر بحث هذا البعد الخامس في مدارس علم النفس والاجتماع. إن أدوات القياس الحالية لا يمكنها قياس (الفكرة، التصور، النية... إلخ) بطريقة يستطيع معها الباحث التعبير عنها في صورة رياضية (رياضيات) على هيئة قوانين فيزيائية.
إن فيزياء الكم ليست إلا صورة من صور القوانين الفيزيائية التي تتناول السلوك المادي الذري، وإن عدم اليقين والاحتمالية (مبدأ هايزنبرج) يأتي لأسباب منها: تأثير المشاهد المباشر في الكمية المقاسة (وهو أمر مثبت علميا)، أو غياب عامل يؤثر في المعادلات الرياضية لم يكتشف بعد (والذي قد يكون عاملا روحيا) ينتج عنه بالتبعية عدم دقة في النتائج، إن الاحتمال ليس سلوكاً مادياً كما يعتقد البعض، إنما هو طريقتنا في التحليل والتنبؤ بالسلوك المادي وذلك لجهلنا بحقيقته الفعلية تحت المستوى الذري. وحتى وإن دفعتنا الروحانيات لإضافة بعد خامس جديد في البحث العلمي يتم تضمينه في المعادلات الرياضية، إلا أن هذا الأمر ليس سهلا في الأبحاث العلمية، كيف والمتخصصين في الفيزياء لا زالوا يعانون من صعوبة هائلة في عملية دمج مختلف القوانين الفيزيائية (مادية) في صورة موحدة (نظرية الأوتار الفائقة) في الفيزياء ذاتها، في حين يطمح بعضنا لدمج مدرستين مختلفتين (الفيزياء وعلم النفس) في صورة موحدة! هذه من الطموحات الصعبة التي تتطلب دعماً دولياً مليارياً هائلاً، لا التغني بأفكار فلسفية أوجدها متعبدون بوذيون في جبال الهملايا. متعبدون بوذيون لا يستوعبون أبسط الأسس الفلسفية للفيزياء.
بعد أن أدركنا بعضا من علم الفيزياء وفلسفته وحدوده، يصبح واضحا أنه من غير المقبول منطقياً الاستدلال بالقوانين الفيزيائية (مادية لم تأخذ بعين الاعتبار الجانب الروحي) لتفسير سلوك روحاني. وبدلا من إنشاء مصطلحات جديدة واستحداث متغيرات وبحثها بطرق علمية أمينة، يتم الترويج لمعتقدات دينية (مثل وحدة الوجود) في صورة تأثير أفكار الإنسان في الكون الخارجي بلغة علمية سطحية دون حقائق علمية مثبتة بأي صورة كانت (يمكنك الاطلاع على مقال الرد العلمي.. على خرافة قانون الجذب والذبذبات والطاقة!: http://4talal.blogspot.com/2014/01/blog-post.html). ليس هذا فحسب بل إن استدلالهم العلمي تكتنفه مغالطات علمية كثيرة ناهيك عن تعاملهم الانتقائي مع الدين الإسلامي وكأنه علبة شوكولاته، يأخذون منه ما يشتهون فقط **.
** مثال على ذلك: يقولون إن قانون الجذب هو تفسير لحديث (أنا عند ظن عبدي بي)، ويدعون أنه من الخطأ الفادح أن تركز على ما لا تريده لأنه سينجذب لك وإن خفت منه سيتضاعف الجذب، يقولون: فقط ركز على ما تريد. ولا أعلم إذا ما كانوا يقصدون بذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان جاهلا (حاشاه) حينما كان يتعوذ دائما من الهم والغم والكسل وقهر الرجال وزوال النعمة.. إلخ ولا يعرف بأنها ستنجذب له أكثر!! وكيف ونحن نستفتح كل سورة بقولنا (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) والله يأمر نبيه في محكم التنزيل: (وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين) وهو يعلم أنه بدعائه سيجذب إليه مزيدا من همزات الشياطين! أم إن الرسول صلى الله عليه وسلم مع كبار الصحابة هزموا في معركة أحد بسبب أفكارهم السلبية (حاشاهم) فجذبوا الهزيمة!! أم إن سيدنا الحسين رضي الله عنه جذبته أفكاره السلبية لحتفه في كربلاء!! أم إن أمين هذه الأمة وأحد العشرة المبشرين بالجنة " أبا عبيدة بن الجراح" جذب الطاعون لنفسه بتفكيرة السلبي؟!!، هذه أمثلة أسردها سريعا لأبين الخلل في الأسلمة والاستدلال الشرعي المنقوص!! يمكن الاطلاع على المزيد من خلال مدونتي.
ومن الجدير بالذكر أن الفراغ الذي أحدثه قصور فهم الإنسان للأسرار الكونية والتي ليس لها أجوبة علمية، هو ما جعله قابلاً للامتلاء بأي شيء والذي وجد معه المجتمع الشرقي أرضاً خصبة لتفسير الظواهر الكونية بطريقة عقائدية وضعية والترويج لها كاكتشافات علمية. قد يحضر في ذهن القارئ تجارب باكستر وإيموتو ووليام تيلر، لأنها تمثل أدلة علمية عند البعض حول مصداقية علوم الطاقة، لكن قبل هذا كله لنفهم الصورة العامة للبحث العلمي الصحيح وأين الخلل الحقيقي الذي وقعت فيه المدرسة الشرقية؟! 

الإثبات X التحقق:
هناك لبس يحتاج الى توضيح قبل الخوض في هذه المصطلحات لنأخذ مثالا: لو قال شخص من الكويت إن العراق دولة سيئة! قد نسأله ماهو إثبات ذلك؟ قد يحدثنا عن الجرائم التي حدثت خلال الغزو العراقي للكويت سنة 1990م، فدولة العراق غزت بلاده وجيشها مارس جرائم مختلفة من قتل واغتصاب وتشريد وحرق للآبار النفطية. أليست كلها حقائق؟ بلى بكل تأكيد. لكن ماذا لو طرحنا السؤال بطريقة مختلفة كأن نسأله: كيف تحققت من أن العراق سيئ؟ حينها سيقف ليتفكر في كلمة "تحقق" وليس مجرد سرد إثباتات. ماذا لو ذكرنا له أن العراق مهد العلم والعلماء، الإمام جعفر الصادق والفقيه أبي حنيفة والمحدث أحمد بن حنبل والكيميائي جابر بن حيان، وعمالقة الشعر أبي تمام والبحتري وأبي العتاهية، وقول الشافعي ليونس بن عبد الأعلى: (يا يونس: أدخلت بغداد؟ قال: لا، قال: يا يونس ما رأيت الدنيا ولا رأيت الناس)، حينها سيتوقف قليلاً. هل تتوقع لو أنه أعاد قراءة تجربة الغزو (التي نتفق على قساوتها ومرارتها والظلم الذي حل به) من خلال استقراء تاريخ العراق، ليبحث بشكل عقلاني أسباب الغزو العراقي وعما إذا كان مطلبا شعبيا من عدمه، ألن يصل لنتيجة أكثر إنصافا عن العراق وشعبه؟ بكل تأكيد ستنضج قناعاته وتصبح أكثر إتزاناً! هذا هو الفرق بين طلب الإثبات على الادعاء وبين طلب التحقق من الادعاء نفسه بشكل شمولي.
إن الأزمة الحقيقية تقع حينما يخلط طالب العلم مفهوم الإثبات (Confirmation) مع مفهوم التحقق (Verification). البعض لديه اعتقادات مسبقة ويبحث لاحقاً في دهاليز العلم والتاريخ عما يعززها ويثبتها، مع الأسف سيجد ما يدعمه أياً كانت فكرته عوجاء وهذا ما نعنيه بـ"الإثبات". لكن الصحيح هو العمل بمفهوم "التحقق" أن نتحقق من الأفكار المسبقة بحيث يكون هناك منهج استقرائي للتاريخ أو منهج تجريبي أو إحصائي موسع لكافة دلائل الإثبات والنفي المتنوعة، فيتم فهم كل حالة فردية في ضوء الحالات الأخرى ليخرج بتصور أكثر نضجاً وأكثر تكاملا. المختصر: الصحيح هو أن نجمع الأدلة لتكوين قناعة وليس الإقتناع أولاً بفكرة ثم البحث لاحقاً عن ما يعززها!
من أخطاء التفكير التي يقع فيها البعض الأخذ بالحالات الاستثنائية أو الفردية الشاذة وتعميمها على النظام ككل، إن حدوث حالات استثنائية في قضية ما يمكن أن يستعان بها كدلائل للتطوير من الفهم العام ، وإن الغاية بعد إدراك الحالات الفردية هي أن يكون هناك فهم لنظام تكاملي يحتوي الجميع. من هنا يتضح عدم منطقية الاستدلال بالحالة الفردية وكأنها هي النظام العام وليست حالة خاصة منه. لكن ما علاقة ما تطرقنا إليه بالمدرسة الشرقية وفلسفاتها؟
إن أهم ما تقوم عليه عقائد وفلسفات المدرسة الشرقية (الهندوسية والبوذية والطاوية وهي ديانات وضعية بجهد بشري قاصر وليست ديانات سماوية من الله عز وجل كالإسلام والمسيحية مثلا) هو الحلول والاتحاد ووحدة الوجود. مختصر هذه الفلسفات ما يلي: الحلول هو أن الرب يحل في مخلوقاته. والاتحاد هو أن الخالق والمخلوق يتحدان في كيان واحد. ووحدة الوجود هي أن الله والوجود شيء واحد لا يتجزأ (كل هذا بعيدا عن فكرة وجود الخالق المدبر). لست هنا بصدد مناقشة شرعية لهذه الفلسفات لكن من المهم شرحها لنشاهد هذا التلازم بين اعتقاداتهم الدينية الوضعية وبين طريقة طرح علوم الطاقة. إن هذه المعتقدات هي أفكار مسبقة بمجهود بشري محض يبحث أتباعها (أتباع المدرسة الشرقية والمتأثرين بها) عما يدعمها فيزيائيا وأسلمتها شرعيا على طريقة الإثبات لا على طريقة التحقق الذي سبق وأن ناقشناه. أوضح مثال على ذلك يمكن أن نناقشه هو قانون الجذب، والذي هو ترجمة عصرية لفكرة وحدة الوجود. بحث أتباع فكرة وحدة الوجود، بعد ما اقتنعوا بها مسبقاً، عما يدعمها فيزيائيا لاحقاً. تقول راوندا في كتابها (السر) باللغة الإنجليزية وليس النسخة العربية المحرفة: "أنت الرب في صورة جسد فيزيائي" (المصدر: The Secret, page 164)، وتقول في موضع آخر: "لو سألت عالم الفيزياء ممَّ يتكون الكون؟ لقال لك من الطاقة، ولو سألته ماهي الطاقة؟ لقال لك إن الطاقة لا تفنى ولا تستحدث من عدم، ولو سألت رجل الدين من خلق الكون؟ لقال لك الرب؟ ولو قلت من الرب؟ لقال لك هو الذي لا يفنى ولا يستحدث من عدم" (المصدر: The Secret, page 158)، لتستنتج الكاتبة من هذه المقارنة أن الله هو الطاقة فيكون من لوازمها إن اللإنسان جزء لا يتجزأ من الإله بإعتبار أن الإنسان طاقة أيضا، لذلك تدور غالبية تجارب هذه المدرسة حول إثبات تأثير الأفكار في ما حولنا وأن الإنسان بأفكاره هو سيد حياته، لأنهم يعتقدون سلفا بأن الإنسان جزء من الإله فهو يطلب ما يريد ويتحكم فيما يريد والكون فقط يستجيب له. (للمزيد حول هذا الأمر يمكنك الرجوع لمدونتي).
أعتقد أننا بدأنا نفهم ما هي الأزمة الحقيقية للمدرسة الشرقية، والتي تتلخص في أن لديها مسبقاً تفسيرات روحانية عقائدية وضعية عن الظواهر الكونية يبحث أتباعها في كيفية إثباتها فقط وليس التحقق من مدى صحتها بإعتبارها مجهود بشري ولو أخذت الصبغة الدينية، وهذا هو الخلل الكبير. يجدر بأهل البحث منهم أن يتحققوا من تفسيراتهم، بمعنى أن يطرحوا الظاهرة أو الفلسفات أيا كانت للبحث أولا حتى ينتهوا الى تفسير تكاملي يراعي جميع الحقائق ووجهات النظر. أوليس من السطحية الاقتناع أولا بالفكرة ثم البحث في دهاليز العلم عما يثبتها فقط مع تجاهل ما يعارضها، إني أسمي من يسلك هذا السلوك بـ"أسير الانطباع الأولي". 

إشكاليات التجارب والدراسات:
إن وجود تجربة وحيدة ليس دليلا كافيا على إثبات فكرة معينة، وإن نشرها في مجلة علمية لا يعطيها الحجية ما لم تكن هذه المجلة العلمية محكمة، فهناك مئات المجلات العلمية غير المعتمدة وذلك لإخلالها بشروط التدقيق على الأبحاث التي تنشرها وعدم تحري المصداقية في النشر العلمي عموماً. لذا من المهم أولاً أن تكون هذه التجربة منشورة في مجلة علمية محكمة معتمدة. ليس هذا فحسب بل أيضا يجب فهم دور التجربة وحدود حجيتها في العمل الأكاديمي من خلال فهم هذه العوامل الرئيسية الأربعة:
1-      الأمانة العلمية للقائم بالتجربة: إن التاريخ العلمي مليء بالمخادعين الذين نشروا تجاربهم وأوهموا بعض منتسبي المجتمع العلمي بثورية أفكارهم، ومع تكرار مثل هذه الفضائح، أصبح النشر العلمي في المجلات العلمية المحكمة أكثر صعوبة لأهمية تحري الأمانة العلمية للباحث وليتم تطوير نظم الأخلاقيات (Ethical Code). هذه الأخلاقيات يتعلمها الطالب على وجه الإلزام في مراحل الدراسة الجامعية وغيرها.
2-      المنهج العلمي الذي قامت عليه التجربة: إن الأمانة العلمية ليست كافية لقبول التجربة في الوسط العلمي بل إن هناك عاملاً مفصلياً آخر وهو المنهجية العلمية (Methodology) المتبعة. فهي الطريقة المثلى القادرة على إيصال الباحث لأصح الأجوبة وتراعي أدوات المنطق والأسس العلمية.
3-      التأثير الأيديولوجي على صاحب التجربة: ما لم توجد هناك معادلات رياضية (مجردة) تفسر العوامل المؤثرة في التجربة، فإن التفسير العلمي للتجربة يصبح رهين ما يعتقده الباحث مسبقاً. فلو شبهنا التجربة بحدث سياسي، سنجد تبايناً شديداً في تحليله بين السياسيين والاقتصاديين والشرعيين والعامة، كلٌ حسب ثقافته واعتقاداته وعلمه. وكذلك هو الأمر عند تفسير التجارب المعملية التي لا تضبطها المعادلات الرياضية المجردة.
4-      كيفية تفسير التجربة: إن أهم قاعدة عقلية يمكن أن نتطرق إليها كمثال في تفسير أي تجربة هي أن الارتباط لا يعني السببية (Correlation Doesn’t Imply Causation)، إن التلازم الزمني بين حادثتين لا يعني بالضرورة أن أحدهما مسبب للآخر. فإثبات العلاقة السببية بين أمرين ليس بالأمر السهل، حيث إنه يتطلب عزل جميع المتغيرات ودراسة كل متغير على حدة، ويعد هذا عملا شاقا جداً ولا ينتج من تجربة أو تجربتين فقط. من جانب آخر، بعض الباحثين قد يكون أمينا علميا عند إجراء تجربته واتبع خلالها منهجا علميا مقبولا، إلا أنه يقفز بتفسيراته خارج حدود ما تقدمه له تجربته، حينها لا تكون التجربة محل خلاف إنما الخلاف يقع في التفسيرات اللاحقة. إن لي عنق المعلومة وعسف الحقيقة واستخدام لغة ضبابية لأجل خدمة فكرة هو أكبر كارثة يمكن أن تعصف بالعلم.
وقبل الشروع في الحديث عن بعض التجارب التي ذكرها البعض في كتاباتهم أو لقاءاتهم التلفزيونية، لنلقي الضوء قليلا على بعض ملامح الأبحاث التي تمت في مجال ماوراء النفس (Parapsychology) والتي تهتم في البحث عن الظواهر الكونية مثل الاستبصار والتخاطر والقدرات الخارقة. 

متى بدأت أبحاث ما وراء النفس (Parapsychology
ساعد الاستعمار الأوروبي، وخصوصاً البريطاني للهند، والذي بدأ عام 1858 وانتهى عام 1947، في تسلل الفلسفات والعقائد الشرقية للمجتمع الغربي، حاملةً معها بعض التفسيرات الروحانية عن خوارق الطبيعة، الأمر الذي حدا بالمجتمع الغربي إلى الاهتمام بالبحث العلمي في هذا المجال وتناوله من منظور مادي بحت (بمعنى يتناول هذه الخوارق لدى الإنسان البوذي من وجهة نظر علمية دون الاكتراث بالتحليل الديني البوذي). في عام 1882، تأسست في لندن جمعية الأبحاث الروحية ((Society for Psychical Research، وبالرغم من إلحاد المجتمع الغربي إلا أنه حاول تناولها بطريقة بحثية منهجية للاستفادة من هذه الأفكار والفلسفات التي يقدمها المجتمع الشرقي والتي تركز على أهمية تأثير الأفكار على السلوك المادي. لذا فإن البحث في هذا الموضوع ليس حديث عهد كما يتوقعه البعض بل إنه أقدم حتى من أينشتاين ونظريته النسبية.
لقد شاب مجال البحث في علم ما وراء النفس الكثير من الشكوك طالت مصداقية التجارب التي تم نشرها والأمانة العلمية للقائمين بها. ففي شهر مارس من عام 1974 نشر راين (J. B. Rhine) بحثا بعنوان (الأمن ضد الخداع في خوارق اللاشعور: Security versus deception in parapsychology) في مجلة (Journal of Parapsychology). ورغم أن راين يُعد من أهم المهتمين والمنافحين عن علم ما وراء النفس، إلا أنه يذكر في صدر بحثه أنه تم توثيق 12 حالة خداع في تجارب بحثية تم نشرها بين عام 1940 وعام 1950، حيث تعمد الباحثون التدليس في نتائج البحث بما يخدم الفكرة العامة التي يريدون إيصالها. (يمكنك الاطلاع:http://psycnet.apa.org/psycinfo/1974-28908-001).
في عام 1979 قامت جامعة برينسستون (Princeton University) بتأسيس مركز أبحاث باسم (The Princeton Engineering Anomalies Research (PEAR) program)، المعني ببحث المواضيع ذاتها من تخاطر وغيره، وتوالت الانتقادات على المركز، ففي عام 1996 تم نشر بحث في مجلة خوارق اللاشعور أو ماوراء النفس (Journal of Parapsychology) بعنوان (CRITIQUE OF THE PEAR REMOTE-VIEWING EXPERIMENTS) يؤكد تناول المركز للأبحاث بشكل غير مهني لمدة عشر سنوات سابقة وأن المناهج العلمية التي تمت من خلالها أبحاثهم مهلهله وغيرها من الانتقادات الحادة. لقد شكل هذا الأمر إحراجا لجامعة عريقة والذي حدا بها إلى إغلاق المركز عام 2007. (يمكنك الاطلاع على نسخة PDF للبحث: http://www.tricksterbook.com/ArticlesOnline/PEARCritique.pdf، وخبر نيويورك تايمز: http://www.nytimes.com/2007/02/10/science/10princeton.html?pagewanted=all&_r=1&).
حتى هذه اللحظة لم نتحدث إلا عن انتقادات مؤيدي أبحاث ما وراء النفس فيما بينهم، انتقادات للأمانة العلمية التي تتم بها أبحاث بعضهم وعدم تحري الدقة فيها. إننا حينما نريد أن نتناول أمرا ما فإننا نبحث أولا عن آراء المؤيدين له حتى لا نكون ضحية تلبيس خصومهم، ولنجد أن الإدانة أتت ممن هم من نفس التوجه! لكن ماذا يا ترى عن خصوم هذا التوجه؟
فضيحة مشروع ألفا (Project Alpha):
في عام 1979، قدم جيمس مكدونل (James S. McDonnell) الشهير في صناعات الطيران وأحد المؤمنين بخوارق اللاشعور، مبلغا وقدره 500,000 دولار كمنحة لجامعة واشنطن في سانت لويس لإقامة مختبر يعتني بالأبحاث الروحية. في هذه الأثناء دبر جيمس راندي (James Randi: الذي عرف بأنه محترف ألعاب خدع سحرية ومن المكذبين للقدرات الخارقة) مع شابين ستيف وميشيل (Steve Shaw and Michael Edwards: محترفي ألعاب سحرية لكنهما مغمورين) مكيدة لهذا المختبر، حيث قدم الشابان نفسيهما لمركز الأبحاث على أنهما يمتلكان قدرات خارقة كـ( ثني الملعقة، والاستبصار وغيره). قام المركز بأبحاث عليهما وبحضور مختلف الباحثين حتى خرجوا بنتائج مذهلة!، لكن الفرحة لم تستمر. ففي عام 1983 أعلن جيمس راندي ورفاقه ستيف وميشيل أنهم خدعوا مركز الأبحاث وأنهم فقط يمارسون خفة اليد والخداع ولا يمتلكون قدرات خارقة. نشر الخبر في مجلة نيويورك تايمز تحت عنوان مجهود ساحر فضح العلماء ليثير قضايا أخلاقية (MAGICIAN'S EFFORT TO DEBUNK SCIENTISTS RAISES ETHICAL ISSUES)، هنا رابط الخبر: http://www.nytimes.com/1983/02/15/science/magician-s-effort-to-debunk-scientists-raises-ethical-issues.html?pagewanted=1. لقد استطاع شابان صغيران في السن خداع كل من كان في مركز الأبحاث ليخرجوا بمعلومات مضللة، ليس هذا فقط بل تعمد بعض الباحثين غض الطرف عن الشابين حتى يخرجا بنتائج إيجابية (على حد قول الشابين). لقد أطلق جيمس راندي على هذه الفضيحة المدبرة اسم (مشروع ألفا) لتهز بأثرها المجتمع العلمي بأسره وتفتح الباب أمام تساؤلات حول الأمانة العلمية ومدى هشاشة المناهج العلمية المتبعة في التجارب المعملية لهذا المجال. لقد أعطينا مثالين لأنصار الأبحاث الروحية ومثالا لأحد خصومها، لماذا لا نخرج من دوامة المتخاصمين ونذهب الى التجارب الحكومية الأكثر حيادية؟ كتجارب الحكومة الأمريكية والحكومة البريطانية!

تجربة الحكومة الأمريكية:
منذ عام 1970 والحكومة الأمريكية لديها اهتمام كبير بدراسة ظواهر "الإدراك فوق الحس" لغرض استخدامها في خدمة ترسانتها الاستخباراتية والعسكرية. حيث ادعى الكثيرون قدرة الإنسان على النفع والإيذاء بأفكاره وبالتركيز والتخاطر وغيرها من الظواهر الكونية. من هذا الاهتمام، أنشأت مشروع ستارغيت (Stargate Project)، وبعد العديد من الدراسات التي أثيرت حولها الشبهات، انقسم الباحثون بين مؤيد ومعارض مما أدى لتردد الحكومة الأمريكية حول هذا المشروع، فتارة يتم إيقاف هذه البرامج البحثية وتارة يتم إعادة فتحها مع تغيير بروتوكولات البحث، إلى أن أوكلت المهمة في عام 1995 لوكالة الاستخبارات الـ(CIA) والتي بدورها أوكلت المهمة للمعهد الأمريكي للأبحاث (American Institutes for Research)، ولقد خلص المعهد، بعد تحقق شامل لكافة التجارب والدراسات، الى أن هذه الدراسات قد شابها الكثير من الخلل في المنهجية وقفزت لنتائج دون مسوغ علمي لها، إضافة الى عدم ثبوت وجود هذه القدرات وعدم نفعيتها في العمل الاستخباراتي (يمكنك الاطلاع على التقرير: http://www.lfr.org/lfr/csl/library/airreport.pdf). وفي أواخر عام 1995 خرج الخبر في التايم TIME تحت عنوان (TEN YEARS AND $20 MILLION LATER, THE PENTAGON DISCOVERS THAT PSYCHICS ARE UNRELIABLE SPIES)، عشر سنوات وعشرين مليون دولار، ليكتشف البنتاغون أن أصحاب القدرات الخارقة جواسيس لا يعتمد عليهم! (رابط الخبر: http://content.time.com/time/magazine/article/0,9171,983829,00.html).
هذه تجربة الحكومة الأمريكية والتي جازفت بسمعتها في تبني مثل هذه المشاريع أملا في البحث عما يمكن أن يدعم ترسانتها الاستخباراتية، ولكن وبعد أن جعلوا أهم ادعاءات ما يسمى بعلوم الطاقة على المحك، ظهر لهم عدم صحتها وأنه استثمار فاشل. هذه تجربة دولة من أعتى الدول وأقدرها على توظيف الكوادر البحثية ومراكز الأبحاث لخدمة أهدافها إلا أنها لم تتوصل لنتيجه إيجابية. لكن الجدير بالذكر أن قصة مشروع ستارغيت الذي فشل على المستوى البحثي العلمي، كان الملهم لخيال صاحب كتاب وفلم (The Men Who Stare At Goats) الرجال الذين يحدقون في الماعز، وبالرغم أنه لا يستند الى حقائق علمية صحيحة، إلا أنه تم عرض مشهد منه في حلقة أحد الإخوة في رمضان كدليل إثبات، (شاهد مقدمة الفلم من باب الاطلاع: https://www.youtube.com/watch?v=LS-jutv-rh0).

تجربة الحكومة البريطانية:
ليست فقط الحكومة الأمريكية هي التي كانت تحاول الاستفادة من أمر كهذا، بل أيضا الحكومة البريطانية، ففي عام 2001 قامت وزارة الدفاع البريطانية بدراسة ظاهرة الاستبصار وقدرة الإنسان على رؤية الأمور عن بعد. وفي عام 2007 كشفت وزارة الدفاع البريطانية عن الدراسات وخلصت النتائج الى أنه لا يوجد ما يدعم وجود هذه الظاهرة أو إمكانية الاستفادة منها. (يمكنك الاطلاع على الدراسات ونتائجها على: http://webarchive.nationalarchives.gov.uk/20121026065214/http://www.mod.uk/DefenceInternet/FreedomOfInformation/DisclosureLog/SearchDisclosureLog/RemoteViewing.htm). لقد حاولت الحكومة البريطانية القيام بتطبيق أعلى درجات المهنية وتطبيق المنهج العلمي في البحث حتى لا تكرر فضيحة الحكومة الأمريكية، ولكنها خلصت الى ذات النتائج.
بالرغم من إلحاد المجتمع الغربي إلا أنه لم يتعامل بدكتاتورية ما يقدمه أدعياء علوم الطاقة. لم يتعامل بنفس دكتاتورية الكنيسة مع جاليليو وكوبرنيكوس بل كان منفتحاً. لقد أراد المجتمع الغربي فهم ظواهر التخاطر والإبصار وغيرها (التي يدعي امتلاكها أهل ما يسمى بعلوم الطاقة) وفق منهجية علمية ودون تقبل تفسيرات دينية مسبقة. وباعتبار الغرب رواداً في العلم الحديث، نتج عن ذلك إنشاء العديد من مراكز الأبحاث في جامعات مختلفة للقيام بذلك، ولكن أغلب هذه الجامعات أوقفت البرامج التي تدرس هذه الظواهر لعدم جدواها بحثياً، أما بعض المراكز فاستمرت بدعم مالي خاص من بعض المؤمنين بها.
 يقودنا هذا للحديث حول تجارب غريبة أحدثت تساؤلات لدى مجتمعاتنا العربية والإسلامية وعن مدى نفعية ومصداقية ما يسمى بعلوم الطاقة. لن أتحدث أبداً عن آراء أدعياء ما يسمى بعلوم الطاقة في المجتمع العربي لأنهم ناقلون لا أكثر، وحالهم كحال "حاطب ليل" يقرأ كثير لكن لا يتحقق من صحة المعلومات ولا يميز بين العلم والخرافة.

تجارب أثر الأفكار والنية على النباتات والجمادات:
لم يكن كليف باكستر (Cleve Backster) عالم نبات كما يتوقع البعض، بل كان ضابط تحقيق في وكالة الاستخبارات الأمريكية CIA والذي يعمل على أجهزة كشف الكذب. أسس باكستر معهده الخاص عن كشف الكذب في سان دييغو، وكانت له تجارب حول النبات وادعاء وجود إدراك حسي له. ففي بدايات 1960 خرج بنظرية (Primary perception) والتي أحدثت ضجة في الوسط العلمي. فهو يدعي أن للنبات إدراكا ووعيا بما حوله، فإذا فكر الإنسان في إيذاء النبات أو سقايته بالماء مثلا فإن النبات يتفاعل معه. ويحاول مؤيدو هذه التجارب أن يؤكدوا على تأثير الأفكار على الآخر بما في ذلك التأثير على الإنسان والنبات والجماد. (ألا تشاهد هذا التلازم بين الفلسفات الشرقية وبين الإدعاءات العلمية).
حدث جدل واسع بين علماء من داخل المؤسسات العلمية الراقية. فمنهم من يشكك في منهجية باكستر العلمية باعتباره غير متخصص ويفتقر لأسس علم النبات (ضابط تحقيق)، ومنهم من يشكك في مصداقيته وأمانته العلمية. ومنهم من هو منفتح على الجديد ويدعمه بشده، إلا أن الجميع كانوا على اتفاق أن يكون هناك موقف حاسم في هذا الأمر بالتأكد أولا من مصداقية التجربة قبل الخوض في أي تفسير، وأن تتولى هذه المهمة مؤسسة علمية تحظى باحترام الجميع. ونتيجةً لذلك وفي عام 1975، أوكلت الرابطة الأمريكية لتقدم العلوم (The American Association for the Advancement of Science) الناشرة لإحدى أرقى المجلات العلمية على الإطلاق، مجلة (Science)، مهمة لعلماء نبات من جامعة كورنل الشهيرة (Cornell University) للتأكد من صحة تجارب باكستر باعتبار أنها إن صدقت ستكون بداية تحول علمي جديد. وبعد أن تواصل هؤلاء العلماء مع باكستر نفسه وقاموا باتباع منهجيته ذاتها في التجربة التي نشرها، وبعد تكرارها تحت أعين مؤيديه ومعارضيه، أصدر هؤلاء العلماء تقريرهم والذي خلص إلى أنه لم تنجح أي تجربة مكررة لتجارب باكستر التي يدعيها ولا يوجد أي ارتباط بين نية الإيذاء أو النفع وبين تفاعل النبات مع ذلك. (يمكنك الاطلاع على البحث المنشور: http://www.sciencemag.org/content/189/4201/478.short ).
لا أخفيكم سراً أنني عندما إطلعت على نتائج تجارب باكستر، تساءلت في نفسي فقلت: لو سلمت جدلا بصحة التجربة، فكيف لوعي النبات أن يكون انتقائيا في إدراك ما حوله، إذا كان باكستر يفكر في إيذاء النبات من باب التجربة (وليس بجدية)، فكيف للنبات أن يدرك أن باكستر سيؤذيه ولا يدرك أن باكستر يريد فقط أن يمثل الإيذاء لعمل تجربة وليس حقيقة! لماذا يتفاعل النبات مع أفكار باكستر بطريقة مجتزأة؟ إدراك النبات - إن وجد - ليس ثوبا نفصله على قياس ادعاءاتنا (يدرك الإيذاء ولا يدرك عدم جدية الإيذاء "تمثيل"). هذا ما نسميه بالتفسيرات العوجاء!! لكن التجربة لم تثبت ابتداءً حتى نناقش التفسيرات اللاحقة.
ومن النبات إلى الماء، ننتقل للياباني ماسارو إموتو (Masaru Emoto) والحاصل في عام 1986 على بكالريوس في العلاقات الدولية (وليس في الكيمياء مثلا!) من جامعة يوكوهاما (Yokohama Municipal University)، وعلى الدكتوراه من جامعة في الطب البديل (International Alternative Medicine University) في الهند عام 1992. أثار إموتو بتجاربه حول وعي الماء جدل واسع في الوسط العلمي، نشرها سنة 2000 في كتابه رسائل من الماء (Messages from Water)، ومنذ ذلك الحين وإيموتو مستمر في أبحاثه التي تتمحور حول تأثير الكلمات والموسيقى على طريقة تشكل كريستالات الماء وأتبعها بتجارب على الأرز، يدعي من خلالها تأثر الأرز بالكلمات الطيبة وغيرها.
يمتنع إيموتو دائما عن مشاركة الوسط العلمي تفاصيل تجاربه التي يقوم بعملها والمنهجية التي يتبعها، ولا ينشر تجاربه إلا في كتبه أو في مجلات علمية غير معتمدة. هنا مقالة علمية تناقش إشكالات إيموتو العلمية: http://www.newscientist.com/article/mg19025461.200-water-the-quantum-elixir.html. ليس هذا فقط بل في عام 2003 عرض جيمس راندي صاحب مؤسسة جيمس راندي (http://www.randi.org/: المهتمة بكشف ادعاءات أصحاب القدرات والخوارق غير الطبيعية) مبلغا وقدره مليون دولار على إيموتو في حال أعاد بنجاح تجاربه تحت أعين الكاميرات والمتخصصين. ومنذ ذلك الحين (انقضى أحد عشر عاما) وحتى هذه اللحظة لم يتجرأ إيموتو بإقامة التجربة في مؤسسة راندي، مما يجعل مصداقيته محل تساؤل. لماذا لا تتساءل عزيزي القارئ هذا السؤال: لماذا لا ينشر إيموتو تجاربه في مجلة علمية محكمة أو أن يقوم بتجربته في مؤسسة جيمس راندي ويأخذ المليون ويحظى بمصداقية ويهزم المشككين فيه. من لا يتعامل بشفافية مع المجتمع العلمي والمتسائلين عموما، لا يحترم عقول الناس.
ممن يُستشهد أيضا بهم في علوم الطاقة د. ويليام تيلر (William Tiller) وهو بروفيسور متقاعد منذ 1992 (https://engineering.stanford.edu/about/emeriti: يمكنك التأكد من آخر سنة كان يعمل في الجامعة من خلال هذا الموقع) من جامعة ستانفورد الشهيرة (Stanford University) تخصص هندسة – علم مواد (وهو أحد أقرب التخصصات لتخصصي)، بعد تقاعده أسس مؤسسة خاصة به (لا تتبع جامعة ستانفود) وفي سنة 1999 نشر بحثاً أثار جدلاً كبيرا ادعى فيه قدرة استحضار النية على تغيير حموضة وقلوية الماء (PH)، للاطلاع على البحث: http://www.scientificexploration.org/journal/jse_13_2_dibble.pdf ).
لقد نشر تيلر كتبا عن دور النية في التأثير على العالم المادي، وقدرتها على إرسال طاقة خفية (Subtle Energy) غير قابلة للقياس في حدود أدوات قياس العلم الحالي. من المؤكد أن جميع أبحاث د. ويليام تيلر عن النية ودورها في التأثير على الخارج تمت خارج أروقة جامعة ستانفورد وخلافا لطبيعة أبحاثه فيها سابقاً.
في حقيقة الأمر، وبعد اطلاعي على هذا البحث بالتحديد والذي يستند إليه كثيرا د. ويليام تيلر، لم أستغرب سبب رفض المجلات العلمية المعتمدة نشره لما شابه من الخلل في المنهجية وفي التفسير، ولم تنشره إلا مجلة (Journal of Scientific Exploration) غير المعتمدة والتي تدعم أبحاث دور الأفكار في التأثير على الآخرين، وفي سياسة نشرها لا تحرص على التمييز بين العلم الزائف والعلم الحقيقي لعدم تحققها من البحث وأدواته ومنهجيته. قد يتوقع القارئ بعد سماع استنتاجات تجربة د. وليام تيلر، أنه قام بتركيز نية شخص ما على الماء حتى تغيرت حموضته أو قلويته، بينما الحقيقة أن ويليام تيلر(على حد قوله في بحثه) قام بطباعة النية (منهجية ابتدعها لتحويل النيات المختلفة لشحنات!!) المرسلة من أربعة أشخاص: رجلين وامرأتين، على جهاز إلكتروني من خلال شحن هذا الجهاز بشحنات وترددات معينة، ومن ثم تعريض الماء لهذه الشحنات والترددات، والتي تارة رفعت حموضة الماء وتارة خفضتها. كارثية هذا البحث أن منهجيته يشوبها خلل كبير، والأجهزة المستخدمة يحيطها الكثير من الغموض وتحوم حولها علامات استفهام كثيرة، وطريقة طباعة النية عليها لغز آخر! يلي ذلك كله قفزة لتفسيرات غير مبررة. بكل إختصار: مصداقية التجربة محل تساؤل!. لقد تتبعت ما ينشره د. ويليام تيلر فوجدت أن جميع ما نشره بخصوص هذه المواضيع لم يتم إلا في كتبه الخاصة أو في مجلات علمية غير معتمدة ذات سمعة رديئة (يمكنك البحث عن المجلة لترى هل هي معتمدة أم لا، وهذا موقع رويترز العلمي به أكثر من 12 ألف مجلة معتمدة: http://ip-science.thomsonreuters.com/mjl/)، إنه باختصار يقفز باستنتاجات مبنية على منهج مختل ودون مبرر علمي.
ينطلق باكستر وإيموتو وتيلر من الأفكار ذاتها ويمارسون الطريقة نفسها في لي عنق المعلومات وتزييف التجارب لخدمة أفكار أيديولوجية مسبقة، إن صدقت (أقولها جدلاً بالرغم من عدم صدقها) بعض تجاربهم ولم تصدق عند تكرارها، فهذا في أفضل أحواله دليل على عدم انتظام تأثير الفكرة على السلوك المادي، مما يؤكد ما هو متفق عليه بالحس المشترك أن هذه الظواهر حالات استثنائية وليست طبيعة مستمرة بمعنى لا شيء جديد قدموه (مثلاً: أنا لا أتخاطر بشكل مستمر مع أصحابي وكأنني أحادثهم على الهاتف، فإذا ما أردت أحدا تخاطرت معه وإن انتهيت أغلقت سماعة التخاطر!). لكن الحقيقة هي أنه لا المنهجية صحيحة بنية عليها التجربة والتفسيرات اللاحقة خارج نطاق ما تقدمة التجربة. لذلك الأمر برمته فوضى!
ومع هذا فما زالت مؤسسة راندي تعرض مليون دولار إن كان بإمكان أي منهم إجراء تجربته بطريقته تحت إشراف متخصصين وكاميرات تسجيل (هنا رابط طلب التقديم على التحدي وشروطه: http://www.randi.org/site/index.php/1m-challenge.html)، الغريب أن هؤلاء نشروا كتبا أحدثت ضجة إعلامية كالتي أحدثها كتاب السر (The Secret) واحتوت كتبهم على دراسات أغلبها لم ينشر في مجلات معتمدة محكمة أو تم القفز بتفسيرات دون أي مسوغ علمي. وإذا كان الادعاء الاستثنائي (فوق العادي) يحتاج إلى دليل إثبات استثنائي (فوق العادي) (Extraordinary Claims Demand Extraordinary Evidence)، فإن ادعاءاتهم لا يدعمها أي دليل إثبات سواء دليلا عاديا أو غير عادي!. ومع تتبع تاريخهم ستجد أن حرصهم على التفسيرات الغريبة والأبحاث المشبوهة لا يمكن أن يكون إلا لأجل زوبعة إعلامية الغرض منها تجاري بحت وهذا ما تحقق بالفعل (بيع ملايين النسخ من كتبهم!!).
في العقود التي سبقت الثمانينيات من القرن العشرين، ومع ازدياد الأبحاث التي تتناول موضوع الإدراك فوق الحس وخوارق اللاشعور، حدثت هزات في الأوساط العلمية بسبب ضبط العديد من حالات الخداع في البحث العلمي وتزوير التجارب حتى أصبحت ظاهرة. ففي أواخر عام 1982 نشر الدكتور مارتن (مهتم بقضايا أخلاقيات العلم) بحثا عن ظاهرة الخداع في التجارب المعملية التي عصفت بالمجتمع العلمي، وحينما نتحدث عن خداع فنحن نتحدث عن حالة تزوير في نتائج التجارب بما يخالف أخلاقيات المهنة والأمانة العلمية. لقد درس الدكتور مارتن دوافع الخداع والتزوير من وجهة نظر نفسية اجتماعية، وخلص إلى عوامل متعددة منها: تمسك الباحث بفكرة معينة بشكل جنوني تجعله يتجاوز دلائل النفي ويتناقص معه خوفه من اكتشاف عبثه بالتجارب فيكون أكثر جرأةً على الكذب، إضافة إلى أن الباحث الذي يعلن عن أفكاره ويتحمس لها يكون تحت ضغط الاعتبارات الأكاديمية والاجتماعية، وأن اثبات عدم صحة أفكاره هو بمثابة إعدام علمي له، وهذا ما يزيد من إصراره على الدفاع عنها بأي مبرر كان. (يمكنك الاطلاع على البحث: http://jos.sagepub.com/content/18/3/364.abstract ).
            لقد ساءني مقطع فيديو يدعي فيه محاضر عربي أنه قام بتجارب علمية تؤكد بشكل قطعي أن طاقة المصلي في صلاة الجماعة تزداد إلى 27 ضعفا مقارنة بطاقته عندما يصلي منفردا، محاولة منه تقديم إعجاز علمي يدعم القرآن والسنة. وهذا القول يدخل ضمن ما أسلفنا ذكره من الخداع العلمي ولو كان مبرره دعم الكتاب والسنة، ولا يجوز إثبات قضايا شرعية نؤمن بها بمعلومات علمية زائفة. وإنني من خلال هذا المقال أتحدى من قال بهذا القول أن يقدم دليله منشوراً في مجلة علمية محكمة، ليس هذا فحسب بل أتحداه أن يستعين بأرقى الجامعات والمختبرات المتطورة والعلماء لإثبات ادعائه، ولأني أعرف سلفا عدم قدرته على ذلك لأن ادعاءه يناقض كل أساسيات العلم، فإني أنصحه لوجه الله أن يعدل عن مثل هذه الأكاذيب ويعترف بخطيئته ويستغفر ربه، لأن هذا القول سيكون له نتائج وخيمة على المدى الطويل في ما يتعلق بإيمان الناس إذا ما اكتشفوا بطلان دليله. إن الدين في غنى عن أن نثبته بأكاذيب علمية. 

العلوم تتكامل ولا تتضاد:
لقد رأينا بالدليل والمصدر الخلل المتراكم الذي يعتري ما يسمى بعلوم الطاقة. وبالرغم من عدم صحة الإستدلال بالفيزياء وأدواته المادية البحته لأجل إثبات ماهو مدرك بالمشاعر والروحانيات غير المادية (كمبدأ عام)، إلا أنه وعلى وجه الخصوص لا مناهج علمية متبعة لهذا العلم المزيف، ولا شفافية في كشف تفاصيل التجارب ولا مصداقية للقائمين بها، أضف لذلك التفسيرات العلمية المغلوطة والقفز لنتائج دون مسوغ علمي. إن الإيمان بتأثير الحسد على المحسود وإحساس الأم بإبنها المنكوب في سفره وغيرها من الظواهر المهمة، لا يعني قبول أي تفسير علمي دون تحقق. فإما أن تكون هذه التفسيرات دينية فحينها لا يصح قبولها إلا بالدليل الشرعي (له طرقه ومناهجه) أو أن تكون تفسيرات دنيوية فيكون الدليل العلمي والمنهج هو المحك. إن تنوع أبواب العلوم الطبيعية منها (الفيزياء وغيره) والإنسانية (علم نفس وغيره) وجد بسبب تنوع صور الظواهر الكونية (المادية والروحانية). لذلك فإن بحث مثل هذه الظواهر (تخاطر وغيره) يجب أن يكون في بابه، وليس تحميل الفيزياء ما لا تحتمل لتكون هي المسؤولة فقط عن بحثها. ومن الجدير بالذكر أن التنوع الصحيح في تناول الظواهر الكونية معمول به حاليا في العلوم الحقيقية وليست المزيفه.
فمثلاً: إن إدراك دور علم النفس وتكامله مع علم الفيزياء يجعلنا نعرف حدود كل علم وكيف نتناول مختلف الظواهر الكونية، فبينما علم النفس يتناول السلوك البشري ودوافعه (بما في ذلك أبحاث حول أهمية التركيز والتفاؤل وعلاقته بإنتاجية الإنسان، .. الخ)، فإن علم الفيزياء يتناول السلوك المادي وقوانينه، واختلافهما ليس تضادا بل تكامل. للسلوك المادي أهمية كما للشعور والأفكار. إنك بتفاؤلك ستزيد من إنتاجيتك وتنعش صحتك وهذا دور الروحانيات، وأيضا حينما تسقط - لا قدر الله - من ناطحة سحاب، عندها لن تنفعك أفكارك وتأملاتك في تفادي الارتطام بالأرض! ولن تكون عندها حياتك رهن أفكارك وهذا ما نعنيه بأهمية الأثر المادي. المادية الغربية التي تهمش الروحانيات على خطأ، والروحانية الشرقية التي تهمش المادية خطأ أيضاً.
وإنطلاقا من قاعدة (إن عدم وجود الشيء ليس دليلاً على عدمه)، فإن أدعياء ما يسمى بعلوم الطاقة حينما لم يستطيعوا تقديم الدليل العلمي الموثوق لتفسير الظواهر الكونية، فهذا ليس دليلا على عدم وجود مثل هذه الظواهر بل على عدم صحة تفسيراتهم لها. إذا كانت مادية الغرب تتناول هذه الظواهر بالبحث العلمي المنهجي دون الإيمان دينيا بوجودها، فإذا لم يثبت لهم صحة ادعاء أهل ما يسمى بعلوم الطاقة كفروا بها كلية، فإننا لا نقع فيما يقعون فيه من خطأ، فعدم القدرة على إثبات وجود الشيء ليس دليلا على عدم وجوده. وعدم قدرة أدعياء ما يسمى بعلوم الطاقة على إثبات تفسيراتهم ليس دليلا على عدم وجود ظواهر كالحسد والعين والملائكة والجن وغيرهم والتي نؤمن بوجودها بدليل شرعي لا تجريبي.
من المهم أيضا أن نؤكد على أنه لا يجوز في صراعنا مع الإلحاد الغربي أن نروج من حيث لا نعلم لعقائدية بوذية وضعية تستند لأبحاث مشبوهة (بعضها ثبت قطعياً أنه مزور) محاولة لإثبات قضايانا الشرعية، إن الغاية لا تبرر الوسيلة. إننا لا يجب أن ننزلق مع الفلسفات الشرقية (البوذية وغيرها) التي تفسر الظواهر باعتقادات دينية باطلة (ديانات وضعية بمجهود بشري وليست كالدين الإسلامي السماوي)، ولا يجب أيضا أن نصبح أسرى المناهج العلمية الغربية (الرافضة للتفسيرات الدينية) التي لم يستطع أحد من خلالها أن يثبت مثل هذه الظواهر. إن حديث أدعياء ما يسمى بعلوم الطاقة عن وجود بعض هذه الظواهر ليس اكتشافاً علميا يحسب لهم بل يندرج فيما هو متفق عليه بالحس المشترك العام. لذا فالمناقشة كلها يجب أن تدور حول تفسيراتهم الروحانية التي تتم بغير دليل شرعي مؤصل من دين سماوي (وليست الروحانيات البوذية) وليست مثبتة بحقيقة علمية ومنهج منضبط.
إن من العقل أن نجمع الحسنيين، قوة وصلابة المناهج العلمية الغربية، وإيماننا بوجود ارتباط بين الفكرة والسلوك المادي روحيا (نفسره من خلال ديننا الحنيف وليس بلي عنق الآيات وعسف الأحاديث لأسلمة عقائد بوذية تناقض الدين الإسلامي في الكليات وليس الفرعيات). كما لا يجوز أن نصبح أسرى الأفكار الإلحادية الغربية التي تحاول إثبات ادعاءاتها من خلال نظرياتها العلمية (فالفيزياء ليست قرآنا بل تتطور مع الوقت وقصورها من قصور العقل البشري الذي أنتجها)، وفي الوقت نفسه لا يجوز أن ننجرف مع الفلسفات الشرقية البوذية التي تفسر هذه الظواهر في ضوء اعتقاداتها الدينية الوضعية وإن تلونت بلباس العلم. هناك إشكالية حادة عند البعض عند تعامله مع الأفكار الجديدة. لا يعي أحدهم أن جديد الأفكار - إن وجد - إما أن يكون أفكارا روحانية فيكون الدين الإسلامي والاستدلال الشرعي هو مرجعيتنا في التعامل معه، وإما أن يندرج تحت العلوم الإنسانية والطبيعية فيكون حينها الدليل العلمي هو المحك، أو تكون تجارب شخصية غير مقننة قد تنفعنا وقد تضرنا. لقد طرحت بالتفصيل منهجية للتعامل مع الجديد توضح هذه النقطة بالتحديد (يمكنك الاطلاع عليها في مدونتي: http://4talal.blogspot.com/ ).
إننا نؤكد دائما على ضرورة التعامل مع الفكرة الجديدة دونما تشنج، لا نرفض جديدا أو نتقبله دون وجود منظومة معرفية نميز من خلالها الجديد النافع من الخرافة التي تتدثر بلباس العلم. ونؤكد أيضا أننا إذا أنتجنا فكرة جديدة، فلا يجوز لنا لي أعناق الأحاديث والآيات لأسلمتها ولا فبركة التجارب والقصص لأجل خدمة فكرة نشعر بولاء داخلي لها وقد تكون فكرة عوجاء! 

وهم الجديد:
لقد وجدت أغلب المهتمين بما يسمى بعلوم الطاقة يصورون للجمهور أن ما يتطرقون إليه هو علم جديد، وأن خصومهم يحاربون كل جديد. فتجدهم يتحدثون تارة عن أثر النية على السلوك المادي، وتارة عن قانون الجذب، وأخيرا يتحدثون عن موضوع السنجلارتي (Singularity) والأكوان المتوازية (Parallel Universes) وغيرها. ومما يثير الشفقة أن مثل هذه المواضيع تم تناولها في المجتمع الغربي منذ عقود طويلة جداً! حيث بدأ تناول مواضيع ما يسمى بعلوم الطاقة بحثياً منذ عام 1882، وموضوع السنجلارتي منذ عام 1794، والأكوان المتوازية قبل عام 1900. كلها مواضيع قديمة جدا تم التطرق إليها منذ أكثر من 100 عام وكتبت فيها الكتب وجعلت في أفلام سينمائية، لكنها لم تصل لمجتمعنا العربي إلا حديثا لذلك يسمونها جديدا!
موضوع السنجلارتي، استوحى اسمه من مفهوم (Singularity) وهذا مفهوم هندسي فيزيائي يتحدث عن التغير الراديكالي في السلوك نظرا لوجود متغيرات حادة. لذلك تبنى القصاصون وأهل الخيال العلمي هذه الفكرة وأسقطوها على الآلة مدعين أنها سوف تتطور حتى يكون هناك تغير مفاجئ يؤدي الى تفوق ذكائها الصناعي على ذكاء البشر والذي ينذر بتغيرات اجتماعية كبيرة جدا، منها أننا قد نصبح يوما ما خدما عند الآلات! وهذا الموضوع مجرد مادة خصبة للسينما الأمريكية وكُتاب قصص الأطفال. أما موضوع الأكوان المتوازية فهناك أبحاث على الصعيد الفيزيائي تحاول تفسير بعض الظواهر الكونية بزعم وجود أكثر من كوكب متوازٍ نعيش فيه بشخصيات مزدوجة في آن واحد. وحتى هذه اللحظة فإن فكرة الأكوان المتوازية خيال علمي وافتراضات فيزيائية لا تستند إلى أي تجربة علمية أو حقيقة مثبتة.
لو سألت أدعياء ما يسمى بعلوم الطاقة: هل هناك إمكانية لوجود الخرافة في الحياة؟ لقالوا: نعم، ولو سألتهم: كيف نميز العلم الصحيح من الخرافة؟ لن يستطيعوا جوابك!. إن الجديد يا عزيزي القارئ لا يعني الصحة، والقدم لا يعني بالضرورة التخلف. العبرة بالدليل والمنهج الصحيح. فإن كان الجديد علما صحيحا فأهلا به، وإن كان خرافة أمنّا شرّها. إن العلم ليس موضة، والأفكار النرجسية التي تتلون بها علوم الطاقة أقرب للوهم منها للحقيقة. لقد كتبت مقالا مطولا بهذا الشأن بعنوان (كيفية التعامل مع جديد الأفكار.. قانون الجذب نموذجاً!: http://4talal.blogspot.com/2014/03/blog-post.html ) يسرني اطلاعك. 

قرود المعرفة:
يعرض عليك أحد أدعياء ما يسمى بعلوم الطاقة فكرته بدليل شرعي، فتناقشه شرعاً، ثم سرعان ما يتهمك بمحاربة العلم الجديد، ويدعي أن فكرته مثبتة فيزيائياً. فتحاوره فيزيائيا وتبين له بطلان أساسه العلمي، فيضيق بك ذرعاً ليقفز للتجارب الحياتية والقصص بعد أن أفلس من سرد الأدلة العلمية، فيقول لك هناك من إنتفع به والعبرة بالتطبيق، ثم تحدثه عن تجارب الضحايا (كعملاق شركة آبل "ستيف جوبز" الذي رفض التداوي بالطب الحديث معتمداً على جذب الشفاء بالأفكار!). وفي النهاية لا يجد سبيلاً إلا بإتهامك بإنخفاض الوعي! وقد يعيش هذا بين طلبته وجمهوره صورة العالم الجهبذ الواعي بينما يسقط أمام أول سؤال بديهي "ما دليلك؟"، إني أسمي من ينتهج هذا السلوك بـ "قرد المعرفة" فهو ينفخ صدره ليوهم غيره بعلميته، ويقفز من حبل الشرع لحبل الفيزياء الى .. الخ، فإذا سقط على الأرض كان ذلك بسبب قلة وعي المحاور!!
لديه براءات إختراع! فتسأله: "أين تم تسجيلها؟" فيتهرب! تسأله: ما هي شهاداتك؟ فلا يجيب، تسأله أين أبحاثك المنشوره؟ فيقول لك: في أدراج شركتنا!! تسأله أين الترخيص الطبي لمعداتك الطبية التي تبيعها، فيتهرب! ثم تحاول التحقق من مصادر كلامه، فيعتبر حوارك حوار شخصاني!. هذا السلوك الفوضوي في القفز بين مختلف العلوم ومختلف الأسئلة هو أكثر ما يميز أدعياء علوم الطاقة. إن سلوك الإقتتات على المصطلحات العلمية في غير موضعها والتسلق على ظهرها لأغراض تجارية بحته، هو ما يجعلني أستحضر في ذهني وصف "قرود المعرفة". هذا الوصف ليس إحتقارا للآخر بل وصفاً للحالة بتجرد وحيادية. 

الإستغلال على أوسع أبوابه!
قد يقول أحدهم أن إستغلال الدين من قبل بعض المتطرفين ليس دليلا على عدم صحة الدين، وهو كلام صحيح، لكن ماذا لو كان الدين بالأصل محل شك وإرتياب، ألا يضاعف هذا الذنب أضعافا مضاعفه! إن ما يسمى بعلوم الطاقة لم تصح (شرعيا وعلميا.. الخ) حتى نبحث هل تم إستغلاله بسوء من عدمه. بإختصار: إذا كان الأصل صحيح فقد يكون الفرع فاسد، لكن إذا كان الأصل فاسد فالفرع بالتبعية فاسد وهو بإختصار حالة علوم الطاقة وأدعيائها. إذا إستغلال علم صحيح بسوء جريمة ، فكيف بمن إستغل علم زائف بسوء، أليست هذه جريمة مضاعفة يعاقب عليها القانون!
مع الأسف، بيع أحجار تجذب السعادة، ومجسمات تجذب شريك الحياة، وأقراص معدنية تجذب الغنى، وبيع أجهزة طبية تشخص الإنسان من كل الأمراض وتعالجه دون تدخل جراحي (مثل جهاز Imago Sensitiv والذي لا يحمل ترخيصا طبيا ويصنف من ضمن أجهزة الخداع)، وإجراء عمليات تجميل دون تدخل جراحي (بالأفكار فقط!)، وأوهام قانون الجذب ودورات التواصل مع الأموات، والعلاج بالطاقة عن بعد وغيرها مما لا يمكننا إحصاؤه هي من أساليب الخداع وسرقة أموال الناس باسم العلم، والعلم منها براء. إن هذا الخداع استشرى في المجتمع في ظل غياب واضح لدور مؤسسات الدولة من وزارة الصحة وحماية المستهلك و .. إلخ. لقد وصل الأمر ببعضهم أنه يمتلك مركزا تدريبيا دون ترخيص ويمارس من خلاله ايضاً كل النشاطات حتى النشاط الطبية (بعضهم يطلب من حضور دوراته التخلي عن تناول الدواء وأنه بإمكانه التعالج بالأفكار فقط ليفعهم للسير على خطى الضحية "ستيف جوبز"، أين وزارة الصحة من هذا العبث!!!).
قد لا يكون كل من يمارس ما يسمى بعلوم الطاقة مخادعاً ولكن قد يكون ضحية أوهام معينة، فلقد حدثني شخصياً رجل خليجي كان يعالج بالطاقة عن بعد، فيقول: كنت أعالج الناس، يتصلون هاتفيا من دول مجاورة ومناطق بعيدة يطلبون أن أقوم بعلاجهم بالطاقة عن بعد، فأخصص لهم ساعة يمارسون فيها طقوسا معينة وأنا في ذات الوقت أقوم بعلاجهم عن بعد، وكانت دائما النتائج مبهرة، وتفاعل الناس يحفزني أكثر ويجعلني أؤمن بالفكرة أكثر. إلا أن موقفاً حدث لي غير حياتي وتركت بسببه وهم العلاج بالطاقة. ثم يكمل قائلا: اتصلت بي فتيات يردن أن أقوم بعلاجهن بالطاقة، فحددت لهن ساعة معينة كالعادة. لكن الذي حصل هو أنني كنت متعبا وقبل الوقت المحدد أردت أن أغفو "قيلولة" قصيرة، لكنني نمت طويلا ولم أستيقظ إلا بعد ساعات. فلما استيقظت من النوم فوجئت برسائل الشكر والثناء من الأخوات على التغير الهائل في حياتهن وأنهن أحسسن لحظيا بالشفاء، بالرغم من أنني كنت نائما فترة استعدادهن ولم أقم بأي حركة ولا أي نشاط. لقد كانت ردة فعلهن هي ذاتها ردة فعل الآخرين التي كنت أتوهم أني أعالجهم!! عرفت أن ذلك لم يكن سوى تهيؤات نفسية وأوهام لا أكثر. عندها تبت إلى الله وتركت هذا الدجل والتحقت بقسم علم النفس في الجامعة لدراسة علم حقيقي لا خرافة ودجل. 

ختاما:
لقد حثنا ديننا الحنيف في مواضع كثيرة أن نتفكر ونعمل العقل، ولا نكون أسرى عادات الجاهلية والفكر القديم، ولا ضحية خرافات أهل الزيف، لقد تناولنا الموضوع بحيادية بين المدرستين الغربية والشرقية، ما للغرب وما عليه وما للشرق وما عليه، نأخذ ما ينفع، ونترك ما لا ينفع. إن المعلومات تنتج فكرة والفكرة تنتج سلوكا والسلوك ينتج مستقبلك. فإذا لم تتحقق من صحة المعلومة تركت مستقبلك رهن مخططات الآخرين. لا نبيع الوهم، نقول الحقيقة ولو تحطمت عندها أوهام الآخرين. نؤمن بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ). نؤمن بأنه من تراخى في التحقق من صحة المعلومة ونشرها لغاية في نفسه فكانت خلاف الحقيقة، تحمل وزرها ووزر من نشرها بسببه، قال تعالى: (سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ). أللهم أظهرنا عليهم إن كنا على الحق، وأظهرهم علينا إن كانوا على حق. فالحق أحق أن يتبع. اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه. هذا ما عندي فإن أحسنت فمن الله، وإن أسأت فمن نفسي والشيطان. 

هذا المقال سلسلة من مقالات تتناول إشكاليات الأفكار الجديدة وفوضى علوم الطاقة، يمكنك الاطلاع على المدونة من خلال هذا الرابط: www.4talal.blogspot.com.
 

*للتواصل:
@4talalblog