يمشي بخطواتٍ بطيئة على خشبة المسرح .. وقد ناهز السبعين عاماً من عمره ..
يتجه نحو المنصة لإلقاء خطاب فوزه بجائزة نوبل ! ومع كل خطوه يمشيها .. يمر شريط
الذكريات في ذهنه سريعاً .. ومع كل فلاش تصوير يسطع في عينه .. تمر منعطفات حياته
أمامه بكل آلامها وآمالها ..
تلك الأحاديث والأسئلة رسمت حياة جديدة لسهيّل .. تلك العبارات البسيطة ..
كانت سببا في فوزه بجائزة نوبل .. ليس ذلك فقط بل إن حياته إنقلبت رأساً على عقب ..
ولازال ملايين البشر وهم خلف الشاشات مِن مَن يُتابع خطاب "سهيّل"
يتسائل: هل حياتنا شبيهه بحياة "سهيّل" قبيّل وفاة أمه .. وإذا كنا كذلك
.. فلماذا لا تكون نهاياتنا كنهايته !
وقف "سهيّل" على المنصة .. "سهيّل" ذو الرأس الأبيض
منحني الظهر .. "سهيّل" الذي تكاد أن تموت كل ملامحه إلا عيناه التي لا زالت
تتوقد علماً وحكمة !
ينظر للآلاف من أمامه .. واقفين له إحتراماً .. وتصفيقهم وصراخهم يهز القاعة
إبتهاجاً بصعوده المسرح .. يستغرب كيف لبداياته وحياته المليئه بالفوضى أن إنتهت به
وهو في صفوف الخالدين .. إذ لم يكن في حياته إلا لغز واحد ..
لازال ذلك الحدث الأهم في حياته يدور حول والدته التي لازالت تعيش في خياله
وصدى همسات حديثها لازال يتردد في أذنه .. تلك الأم التي لولا وجودها في حياته ..
لكان في عداد المجهولين الضائعين في تفاصيل الحياة !
يتذكر عندما كان طالباً في المدرسة .. وكيف كانت هموم المدرسة ونظام البيت
الصارم .. يخنق حريته .. وأمله الوحيد أن يجعل الله له من أمره فرجاً وأن يصبح ذلك
الطالب الجامعي الذي يتحرك في مساحه واسعه !
يتذكر عندما تخرج من المدرسة وإبتهج بفراقها داخلاً رحاب الجامعة .. ولكن المفاجآت
كانت بإنتظاره .. لقد أصبحت الحياة أعقد! .. المسؤوليات تعاظمت عليه وإنحسار الفرص
الوظيفية أوقد همومه .. إنه لا ينفك أن يزداد هماً وغماً .. إنه في تلك الأيام
الجامعية إستمر داعياً ربه أن يسهل الله عليه التخرج ويتوظف .. حتى تستقر حياته ..
وتطمئن نفسه !
يتذكر "سهيّل" تلك الفرحة التي غمرت أجزاءه حينما تم قبوله في
الوظيفة التي كان يطمح لها .. لقد تزوج بفتاة أحلامه ! أنجبت له الأطفال .. لكن
المسؤوليات بدأت تحاصرة من كل حدب وصوب .. ومشاكل العمل تختلط بمشاكله الزوجية ..
وخلافات إخوانه العائلية تفسد حلاوة الحياة التي كان يرسمها في أحلام يقظته ! وفي
تلك اللحظات العصيبة من عمره .. لاحت له فكرة التقاعد الوظيفي .. وأن فيها الراحة
من هموم الحياة والتفرغ للذات !
"مزنة" .. تلك المرأه التي لم تدرس الا قليلاً .. حبيسة العادات
والتقاليد .. تلك الأم التي تراقب إبنها وهو ينفعل مع كل مشكلة تعترض طريقة .. تلك
الأم التي آلمها حال إبنها الذي طغت صراعات العمل على باقي أجزاء حياته .. تلك
الأم التي ترى في عيون إبنها الآلام وفي جسده الجراح التي أدمتها حياة المجتمع
الفوضوي الذي يعيش فيه!
يتذكر "سهيّل" .. عندما ضاقت به الأرض بالرغم من بيته الواسع ..
لازال يتذكر سهيّل .. سنين بلا إستمتاع .. مرت من عمره بالرغم من رصيده المليوني
..
لا زال يتذكر .. كيف أن المنصب الذي حصل عليه لم يغير من الأمر شيئاً وأن
تلك الصراعات التي خاضها لم تكن تستحق كل ذلك العناء ..
لكن تلك اللحظات التي دعمته أمه "مزنه" الى غرفتها وهي في آخر
أيامها .. لحظات خالدة في حياته !!
تنبه فجأه الى صمت الجماهير أمامه .. والعيون كلها متجه نحوه .. حينها نسي ذلك
الخطاب المعلب الذي أعده من قبل .. فقرر أن يخبر الجماهير بحديث أمه "مزنه"
له:
بسم الله الرحمن الرحيم .. ذات ليلة دعتني أمي "مزنة" رحمها الله
الى غرفتها وجسدها العليل متمدد على سريرها الطبي .. حدثتني والكلمات ترهق أنفاسها
تقول: يا بني إني أراك في حال يرثى لها .. وجهك ذابل وأعصابك مشدوده .. يا بني إني
أرى المشاكل تأكل فراغك وصحتك .. يا بني وقت مستهلك في تفاصيل الحياة المملة .. يا
بني.. يا بني هل تعلم أن المشكلة فيك لا في من حولك !!! فقاطعتها عن غير قصد ودموعي
تحبسها عزتي: يا أمي كيف هذا !!.. يا أمي إن من حولي هم من يثيرون المشاكل .. إنهم
يتدخلون في خصوصياتي .. يا أمي المجتمع لا يقدرني .... فوضعت يدها الرقيقه الطاهره
على فمي وهي تبتسم ... فسكت مجبراً !! فإستكملت حديثاً قاله: يا بني ما تمر به يمر
به كل البشر وكلامك هذا مكرر .. فهل تتوقع أن العلماء والعظماء كانت حياتهم مثالية
.. أم أن المجتمع كان يقدرهم ويحتفي بهم !! يا بني تلك أعذارٌ مستهلكه .. يا بني
العلة فيك أنت لا في غيرك !! .. وفي جو من الصمت المتبادل تسلل الي إحساس بأن أمي
لا تفهمي مما زاد جراحي جراحاً !! فأكملت حديثها وهي تنظر لأعلى ! يا بني إن
الإنسان الذي يفهم الغاية من حياته .. سينشغل بالمسير نحوها عن تلك المشاكل التي تعترض
طريقه .. فإدراك الغاية والوصول لها عنده أهم من التفاعل مع ملهيات الطريق .. يا بني
إن الإنسان الذي لديه هدف واضح في حياته .. سينصرف الى تحقيقه عن توافه الأحداث
التي تعج بمجتمعه الفوضوي .. يا بني إن الإنسان الذي يفهم أن حياته ليست إلا ثانية
في عمر هذا الكون الفسيح .. سيعي تماماً أن الوقت الذي يضيعه في التفاعل مع المشكلات
العائلية وتضخيمها وصراعات الأقران .. جريمة لا تغتفر .. فالحياة ليست إلا لحظة
تستحق أن نستمتع بها ! يا بني إن الإنسان الذي لا غاية له .. كالمسافر الذي لا
وجهة له .. والذي سيبقى فقي محيط المشاكل التي ستظل تتجاذبه من غير غاية تدرك ..
يا بني إن الإنسان الذي لا يدرك عظمة ما لديه من مواهب .. سيأكله الحسد وهو لا يرى
إلا ما لدى الآخرين .. يا بني إن الإنسان الذي شغله الشاغل الثأر من المسيئين
والإنتقام من الأعداء لا وقت لديه ليبني مجداً .. يا بني إن الأحقاد لا تملئ إلا
قلب رجل ليست حياته ذات أهمية للبشرية .. يا بني إن الإنشغال بتحقيق الأهداف وطلب
الوصول للغايات سيجعل الإنسان وبشكل تلقائي يتجاهل كل تلك المشاكل والإساءات والشتائم
التي يُرمى بها .. يا بني إن جمع المال ليس غاية والوصول للمنصب ليس هدف في حد
ذاته .. يا بني إن الغاية التي لا تحاول من خلالها النهوض بمجتمعك غاية أنانية ..
والهدف الذي من شأنه أن يجلب لك المنفعة من دون الناس هدف أناني .. وإن الأنانية
مجلبة للقلق وبيئة لتكاثر الهموم ! يا بني توقف قليلا مع نفسك .. إسأل نفسك "ماهي
الغاية من حياتي ؟" .. "كيف لي أن أجعل من أهدافي وغاياتي سبيلاً للنهوض
بمجتمعي ؟" يا بني تلك الأسئلة هي أمهات الأسئلة ومفاتيح السعادة والهناء!
وكما أن الحصول على الإجابة ليس بالأمر الهين فإن إدراكها منجاة ! .. فتوقفت عن
الحديث ويبدوا عليها التعب والإعياء .. إلتفتت ونظرت في عيني بإبتسامه وقالت: تصبح
على خير .. قبلت يدها .. فإنصرفت الى غرفتي ولم أستطع أن أنام ليلتي تلك .. وما أن
أشرق الصباح .. حتى أسرعت الخطى اليها .. طرقت الباب عليها وفي داخلي ألف سؤال وسؤال
.. ولكن ملك الموت سبقني لها! رحمك الله يا أمي رحمة واسعه !
أخوكم / طلال عيد العتيبي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق