أخذت حاسوبي المحمول إلى مشرف رسالتي
للدكتوراه في قسم هندسة الطيران والميكانيكا في جامعة "تكساس أوستن"،
لأطلعه على نتائج لمشكلة فيزيائية كنت أعمل عليها لأشهر، وأبلغته أنني لم أتوقع
تلك النتائج ولست راضياً عنها، رغم مراجعتي للمعادلات الرياضية وللبرنامج (code)، في البداية لم
يناقشني في النتائج بل أشار إلى جهاز في زاوية الغرفة يتكون من زنبرك (Spring) مثبت من أعلاه، وتتدلى
أسفله قطعة حديدية، وبجانب الزنبرك "سيشوار" (مجفف للشعر) موجه باتجاهه،
وسألني: لو شغلنا مجفف الشعر (يخرج هواءً ساخناً) وارتفعت درجة حرارة الزنبرك ماذا
تتوقع؟
فقلت: سيتمدد الزنبرك ويلين أكثر، وسيؤدي
لانخفاض القطعة الحديدية لأسفل.
قام الدكتور من كرسيه وذهب للجهاز وشغل مجفف
الشعر، وإذا بالزنبرك ينكمش مع الوقت والقطعة الحديدية ترتفع إلى أعلى! فقال لي بعد
ذلك: تنبؤاتنا وتوقعاتنا - وإن كانت مبنية على أساس علمي صحيح في حدود علمنا - ليست
بالضرورة صحيحة!
المنطقة الخطأ:
تعاقدت شركة أخشاب مع مزارع على قطع أشجار
لمدة يوم واحد في مكان محدد، بدأت الشركة أعمالها منذ الشروق، وكل شيء كان يسير
وفق المخطط له، والعمل مستمر على قدم وساق، لكن قبيل غروب الشمس صعد أحد العمال أعلى
شجرة وصاح برفاقه، إننا نقطع في المنطقة الخطأ!!
بغض النظر عن صحة هذه القصة من عدمها – والتي
سمعتها من أستاذ لي عندما كنت طالباً في جامعة الكويت - لكنها تحاكي واقع الكثير
من الدينيين واللادينيين الذين يجاهدون لنصرة عقائدهم وأيديولوجياتهم باستخدام
العلوم الطبيعية، والفوضى الحاصلة في الساحة الثقافية قد تذهب بكل هذه الجهود،
الأمر الذي يستدعي أن يصعد أحدهم بعيداً عن تفاصيل الخلافات العلمية لينظر ما إذا
كانوا يتحركون في المنطقة الصحيحة من عدمه قبل فوات الأوان!!
بنية العلوم الطبيعية:
لحل الكثير من الإشكالات، فإنه يتطلب منا فهم
كيفية بناء كل من العلوم والدين بشكل عميق، إن الطريقة - بشكل عام جداً - التي
تنبني بها العلوم ليست بهذا التعقيد، إما النزول من أعلى (قواعد عامة) إلى أسفل
(حالات خاصة)، وهذا غالباً معمول به في الرياضيات، أو العكس وهذا المعمول به في
الفيزياء، أو كليهما، الحالة الأولى تسمى الاستنتاج "Deduction"، في هذه
الحالة فإن صحة القواعد العامة يعني بالضرورة صحة الحالات الخاصة المستنبطة منها،
ولكن في الحالة الثانية المسماة بالاستقراء "Induction" فإن بناء
قواعد عامة من حالات خاصة - صحيحة محدودة العدد - ليس صحيحاً بالضرورة.
إن القواعد العامة – القوانين الفيزيائية
مثلاً- المستنبطة من الحالات الخاصة لا تكون صحيحة إلا عندما تراعي هذه القواعد
عدداً لانهائياً من الحالات الخاصة! إلا أن الوصول إلى عدد لا نهائي من الحالات
الخاصة غير ممكن في الواقع العلمي (غير الرياضيات)، لذا بقدر ازدياد عدد الحالات الخاصة
يكون ذلك داعماً أكثر لصحة القواعد العامة المبنية عليها.
والخلاصة هنا هي: أن القواعد العامة ليست بالضرورة
صحيحة بشكل مطلق، لعدم إمكان القيام بعدد لا نهائي من التجارب المعملية (الحالات
الخاصة)، بما في ذلك جميع النظريات الفيزيائية بلا استثناء.
إن عدد الحالات الخاصة الأخرى (التجارب التي لم
نقم بها أو لم نفكر بها بعد والتي لم ندخلها من ضمن البناء النظري للقواعد العامة)
لا نهائي، بعضها نسميه بتنبؤات النظرية، قد تتبع قواعدها العامة وتكون حينئذٍ داعمة
لصحتها، وقد لا تتبعها فتكون دلائل جديدة على قصور في بنيتها الأساسية، الأمر الذي
قد يقيد النظرية ويجعلها محدودة، وقد ينسفها بالكامل.
وعلى سبيل التوضيح، إن وجود دلائل على خطأ في
نظرية ما - كنظرية التطور - لا يعني بالضرورة نسفها بالكامل، بل في أقل تقدير
تقييدها في نطاق معين، وهذا ما حدث بالفعل لفيزياء نيوتن، فإن خطأها على المستوى الذري
والسرعات العالية جداً لم ينسفها بقدر ما جعلنا أكثر دراية بحدود تطبيقها
والاستفادة منها، والمتدبر في تاريخ النظريات العلمية يلاحظ أنه لا توجد نظرية
واحدة لتفسير كل شيء، لكن توجد نظريات عديدة في ذات التخصص لتفسير بعض الأشياء، ومن
يدرك كيفية البناء العلمي للنظريات سيخلع عدسة المثاليات التي تدفع الشخص إلى نسف
كل النظريات!
إن التنبؤات التي تقول بها نظرية تأكدنا حتى
الساعة من صحتها – ليست بالضرورة صحيحة، فهي ليست منحة نأخذها من النظرية ونحاجج
بها، بل تدخل ضمن معايير لتقييم النظرية لا أكثر.. نحن هنا لا نبحث الفرق بين
العلم والعلم الزائف، فهذا مبحث تناوله الكثير من فلاسفة العلم على رأسهم "كارل
بوبر" و"توماس كان" و"امري لاكاتوز" وغيرهم، وقد أجادوا
فيه كثيراً، وتتلخص أطروحاتهم في عبارة واحدة: (النظريات العلمية مثل بورصة أسهم الشركات،
يتم إنشاؤها ثم يتم تداولها، مؤشراتها في صعود وهبوط مستمر مع كل اكتشاف علمي
وتحديات جديدة، وقد تفلس في يوم من الأيام، دورها ليس تفسيرياً فقط بل دورها وصفي-
تنبؤي وهذا هو المحك)، إنني في هذا النقاش أفترض جدلاً صحة نظرية علمية ما، وأحاول
شرح عدم استطاعة بعض النظريات الصحيحة - مجازاً - البت به، ولا يجوز لنا القول
بصحة نظرية إلا بصورة مجازية؛ لأن الإثبات بشكله الصحيح في الاستدلال الاستقرائي يتطلب
عدداً لا نهائياً من الأدلة لبناء نظرية صحيحة، وهذا غير ممكن واقعياً كما أسلفنا
ذكره، لذلك وعملاً بما هو ممكن واقعياً فإن القول بأن النظرية صحيحة ومثبتة لا
يكون إلا بشكل مجازي، فقد وافقت فيه الافتراضات العلمية التجارب والتنبؤات في حدود
ما نعلمه حتى الآن، أما الإثبات المطلق فقائم فقط في الرياضيات.. ورغم أن
الرياضيات هي لغة الفيزياء، إلا أن الرياضيات تستطيع الإثبات والنفي المطلق في
حالات كثيرة، وهذا ما لا يمكن التوصل إليه في الفيزياء، لكن كيف نفهم هذا التداخل؟
سيفيدنا هذا في التخلص من "اليقينية" التي يعيشها بعض المفتونين بالعلوم
الطبيعية.
ولنضرب لذلك مثلاً: من أهم الأسئلة التي
يبحثها أهل الرياضيات التطبيقية هي أحادية الحل الرياضي Uniqueness of Solution،
بالإمكان في الرياضيات أن نجزم أن لهذا النظام الفيزيائي - إن وجد - حلاً واحداً
فقط لا أكثر، وبالإمكان الجزم باستحالة وجوده (رياضياً)، وكذلك نستطيع أن نجزم بوجود
عدد لا متناهٍ من الحلول، لكن المتخصصين يعلمون أن هذا الجزم بالتأكيد والاستحالة
الرياضية "المنطقية" يمتد فقط في حدود التعبيرات الرياضية للقانون
الفيزيائي الذي ليس بالضرورة معبراً عن الواقع الطبيعي ذاته، إن القوانين
الفيزيائية وبطريقة البناء التي أسلفنا ذكرها، هي مجرد أفضل تصورات توصلنا إليها
عن الواقع الفيزيائي – من مشاهدات وتجارب
خاصة محدودة العدد - وليست بالضرورة ذات الواقع، لذلك فخلاصة القول هنا هي أن الإثبات
الرياضي والاستحالة الرياضية لا يمتدان للواقع الفيزيائي، بل لتصوراتنا عنه فقط -
التي لسنا متيقنين من صحتها.
الأمر الآخر المتعلق بالرياضيات والفيزياء هو
أن الفضاءات الرياضية التي تنبني عليها المعادلات الرياضية أوسع بكثير من الفضاء
الفيزيائي (الذي نحسه)، والذي هو جزء مقيد منها، ليس كل ما يحدث في الرياضيات بالضرورة
حادثاً فيزيائياً.
على سبيل المثال: أستطيع في الرياضيات أن
أبني فضاء رياضياً مكوناً من عدد لا متناهٍ من الأبعاد المتعامدة (رياضياً)، هل
هذا ممكن وجوده فيزيائياً؟ والجهل بهذا الأمر جعل بعض الناس يشطحون بأفكار
وتفسيرات وخيالات، لها في الرياضيات ما يدعمها لكن ليس بالضرورة أن يكون لها وجود
فيزيائي كالأكوان المتوازية مثلاً! وبخصوص الخيال ، فإننا نأكد على أهميته ودوره
في النهضة العلمية والذي ينحصر في التحفيز الذهني فقط لا أن نعتقد سلفاً بصحته
ونحاجج به.
بالرغم من اكتساب العلوم الطبيعية ثقة كبيرة
لدورها الاستثنائي في تطور البشرية، إلا أن بعض الناس رفعوها لمرتبة الرياضيات، وبعضهم
الآخر تعامل معها ككتاب مقدس لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.. وهناك -
مع الأسف – من يرتكب مجازفات علمية غير مدرك لتبعاتها، كالقول: إن الفيزياء تبطل
الرياضيات (التناقض المنطقي مثلاً)، وكأن الفيزياء تبطل القواعد الرياضية التي
بنيت من رحمها، فهي بذاتها تبطل ذاتها، الأمر الذي يبطل حجيتها هي على الرياضيات،
فيكون الأمر كله باطلاً في باطل!
الأيديولوجيا والعلم:
حينما لم يواكب مسار كوكب "أورانوس"
قوانين نيوتن - التي تم مراراً إثبات صحتها في ذلك الزمن – قام بعض أنصار النظرية
بحساب موقع وكتلة كوكب (افتراضي) مسؤول عن انحراف كوكب "أورانوس" عن
المسار المفترض له ضمن قوانين نيوتن، والذي بالفعل تم اكتشافه عام 1846م، واسمه
كوكب "نبتون"، وهو أول كوكب يتم اكتشافه عبر المعادلات والتنبؤ الرياضي.
لكن حينما تمت ملاحظة انحراف كوكب عطارد عن
مساره – المتوقع له ضمن قوانين نيوتن - تنبأ بعض العلماء بوجود كويكب حوله يتسبب
في هذا الانحراف، وهو الكويكب الذي لم يشاهده أحد حتى الآن، إلا أنه وبعد زمن تم
تفسير هذا الانحراف من خلال النظرية النسبية لأينشتاين، فبدلاً من مراجعة قوانين
نيوتن والشك فيها تحركت أدمغة بعض الباحثين في فلك نظريات نيوتن.
هذا مثال بسيط يبين كيف تكتسب بعض النظريات
قوتها المعرفية مع بعض الاكتشافات التي تتحول مع الوقت إلى أيديولوجيا تعمي الباحث
عن الحقيقة، مشهد يتكرر والتاريخ يعيد نفسه.
قد يكون العكس أحياناً وهو أن بعض الاكتشافات
التي تتعارض مع نظرية ما تجعل بعض الباحثين ينسف النظرية بشكل كلي، فبين اكتشاف كوكب
نبتون وانحراف كوكب عطارد لا يجوز لنا أن نكابر بكمال نظريات نيوتن ولا نسفها بالكامل،
لكن عرفنا حدودها ودقتها! إن الأيديولوجيا قادرة على اختلاق كل شيء ليس التزوير
والكذب فقط، بل حتى محاولات علمية محترمة لأجل الانتصار في المعارك المعرفية.
على صعيد آخر، الكثير منا على علم بموقف
الكنيسة في العصور القديمة من العلم، وكيف تعاملت مع "كوبرنيكوس" و"جاليليو"
وزملائهما بخصوص مركزية الشمس، وبعضنا الآخر على علم بما حصل في عالمنا الإسلامي،
حيث سبق وجزم بعض العلماء الشرعيين – مع كامل التقدير والاحترام لهم - بأن الأرض
مسطحة وثابتة مستدلاً بآيات وأحاديث، وهذا ما تأكد لنا خلافه، الأمر الذي يستدعي
طرح أسئلة مهمة: هل ما ذهب إليه أهل العلم الشرعي في المثال السابق يقع ضمن ما هو
قطعي في حدود الاستدلال الشرعي، أو هو ضمن تفسيرات واجتهادات الخلاف فيها واسع؟ هل
اجتهادات أهل العلم الشرعي هي الدين ذاته أم شيء خارج عنه؟
العلم والعلميين X الدين والمتدينين:
مثلما لا يرى بعض الناس الدين إلا من خلال
ممارسات وأقوال المتدينين فقط، فهناك أيضاً من لا يرى النظريات العلمية إلا من
خلال ممارسات وأقوال أنصارها لا أكثر، إن الدين والعلم أمران منفصلان عن أهلهما،
إن هناك الكثير من الأمور المؤثرة التي تتدخل في صياغة الآراء العلمية والتفسيرات
الدينية: إدراكات ذهنية متفاوتة، بيئة اجتماعية متنوعة، عوامل نفسية مختلفة، مدى
وفرة المعلومات وكفايتها ...إلخ.
إن الحياد في ظل تأثير هذه الأمور مهمة شبه
مستحيلة، الأمر الذي يستدعي الجهاد والصبر والتركيز، وقد يخطئ بعض الباحثين ليس
لسوء نية وخبث، بل لعدم إدراكه لهذه العوامل التي صاغت آراءه العلمية أو تفسيراته
واجتهاداته الشرعية.. هذا الأمر ينطبق على كلا المجالين الدين والعلم، ففي ذات
الوقت الذي نقول: لا يجوز حصر الدين في ممارسات المتدينين وآرائهم ٫ نقول أيضاً:
لا يجوز أن نحمل العلم أخطاء أهله من تفسيرات وآراء ... إن إدراك هذه النقطة
الجوهرية في النظر إلى الأشياء بموضوعية وعدل سيدفع الكثير من اللادينيين إلى إعادة
النظر في الدين، كما سيدفع أيضاً الكثير من أهل العلوم الشرعية إلى التراجع عن ظلم
نظريات علمية بجريرة ممارسات وتفسيرات أنصارها.
بعثرة لا علاقة للعلم بها:
العلوم التجريبية كالفيزياء، والتي تتناول
السلوك المادي تقوم على الشك الدائم، تولد فيها نظريات غير مكتملة النمو، تكبر مع
الوقت، تنضج مع التحديات، أو تفتح لنا أبواباً أخرى قبل أن تموت، ليس للإيمان
واليقين فيها موضع قدم، ليس لأحد قدسية ولا سلطة، ما كنا متأكدين منه في السابق لم
نعد متأكدين منه في المستقبل، لكن الشيء الجميل الذي يحسب للعلوم الطبيعية هو أنها
محايدة، تصحح ذاتها بذاتها مع الوقت، مبحثها مختلف عن مبحث علم النفس مثلاً.. لا
يعلم بعض الناس كم هو مهم جداً إدراك منطقة بحث العلم حتى لا نكون في المنطقة
الخطأ ونتجاوز حدودنا كعلميين ونحمِّل العلوم ما لا تحتمل.
إن الأديان - بشكل عام - تتناول الجوانب الإيمانية والروحانية، وتقوم على الإيمان الدائم والتساؤل، ففي صحيح مسلم: روي عن سيد الخلق محمد صلى الله
عليه وسلم قوله: "نحن أحق بالشك من إبراهيم"، والمقصود هنا ليس الشك
الديكارتي وإنكار وجود الله، بل التساؤل بغرض الاطمئنان لفهم أمر ما نؤمن به سلفاً
كما وضحه سيدنا إبراهيم عليه السلام في القرآن: (قال أولم تؤمن قال بلى ولكن
ليطمئن قلبي)، هي أمور لا يمكن معها الإثبات ولا النفي باستخدام علم يتناول السلوك
المادي كالفيزياء مثلاً.
قد يقول قائل: هناك أثر مادي لبعض الأمور
الدينية كشفاء مريض بسبب الصدقة والدعاء ونحو ذلك، وأقول: سبب عدم إمكان بحثه هو
أمران؛ الأول: عدم توافر "انتظام الحدوث" وهو شرط من شروط البحث العلمي،
فقد يستجيب الله الدعاء وقد لا يستجيبه، وقد يتقبل الصدقة وقد لا يتقبلها لحكمة
غيبية يعلمها سبحانه، والثاني: البركة والنية غير قابلة للقياس المادي، بل هي أمور
معنوية.. هي مشاهدات تقوي الإيمان لكن لا يمكن أن تخضع للعلوم التجريبية.
إن المباحث المختلفة لا تتعارض بالضرورة بل
تتكامل، وخلطها بغير علم أنتج لنا فوضى معرفية، إن محاولة إثبات الجن والملائكة أو
نفيهما بأبحاث مزورة كالذي حدث فيما يسمى بعلوم الطاقة كارثة، والجزم اليقيني بصحة
تفسيرات نظرية التطور - لنقض الدين - جهل، الترويج للخيال العلمي - كما هو حاصل في
الأكوان المتوازية - لأجل إثبات أو نفي قضية عقائدية لا تليق بأهل العلم الحقيقي، واتهام
العلوم الطبيعية بقصورها في تناول الجانب الروحاني يدل على كارثة في فهم مناط
البحث، ومهاجمة من يقول بأن نظرية الخلق نظرية غير علمية - بالمفهوم القائم في
العلوم التجريبية - هجوم غير مبرر، وتفضيل نظرية التصميم الذكي على نظرية التطور يحتاج
إلى إعادة نظر، والاستدلال بالنظرية النسبية لأجل دعم نسبية الأخلاق استدلال خاطئ
تماماً (مثلاً النظرية النسبية لأينشتاين لها مرجعية ثابتة لا تتغير وهي سرعة الضوء الثابتة في الفراغ، والتي
يفترض أنها السرعة الأعلى في الكون)، واستخدام قطة "شرودنجر" والرغوة الكمومية
لإسقاط الدين كوارث معرفية تعصف بالمجتمعات... والأمثلة كثيرة.
نظرية المؤامرة:
التاريخ مليء بصراعات نمَّت الشعور بوجود
مؤامرات، لأجل الحياد سأستعرضها بلسان حال قائليها، الأمر الذي لا يعني الرفض أو
الموافقة، هناك مؤامرات داخل المؤسسات الدينية ضد العلم كالذي حدث بين "جاليليو"
والكنيسة، وكذلك مؤامرات داخل المؤسسات العلمية ضد الدين كرفض دعاوى في الولايات الأمريكية
منها ولاية "أركنساس"، حيث رفضت المحكمة طلب تدريس نظرية الخلق "التصميم
الذكي" بجانب نظرية التطور في مادة الجيولوجيا، ومن يحاول النظر إلى هذه الأمور
بهدوء وإنصاف، فإنه سرعان ما سيدرك الخلل الذي أدى إلى هذه الصراعات، ألا وهو تداخل
مناطق البحث في بعضها بشكل فوضوي، كان على الكنيسة ألا تتدخل في مباحث العلم
التجريبي ولا تقحم الدين فيها، والمحاججة العلمية في النهاية هي الفاصل، وأما
بخصوص مطالبات تدريس نظرية الخلق في مادة البيولوجيا فهي مطالبات غير مبررة، لأن
نظرية الخلق دينية محضة محلها حصص العلوم الدينية، وبعيداً عن الجدل الذي يدور حول
هذه الأمثلة، فإن اليوم الذي تقتحم العقائد والأيديولوجيات العلوم فلا ترتجي تطوراً
ولا علماً، وهذا ليس بالضرورة أن يكون علة في العقائد بل لأن بنيتها ومناط بحثها مختلف،
بالإضافة إلى أن الشريعة الإسلامية مثلاً لم تأتِ ككتب علمية (فيزياء وكيمياء... إلخ)،
بل جاءت لتناول الجانب الإيماني والروحاني وللإجابة عن أسئلة الوجود، وهي أمور لا
يمكن بحثها في الفيزياء مثلاً، وحينما تناولت الشريعة الإسلامية الظواهر الكونية، كان
هذا من باب الحث على طلب العلم، قال تعالى: (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ
الخلق)، إن فك التشابك وإدراك اختلاف مباحث العلوم مهم، حتى لا تستهلكنا نظرية
المؤامرة.
خارطة طريق:
بعد هذه الإطلالة عن العلم والدين ومجال كل
منهما يمكننا الوصول إلى خارطة طريق تجمع شتات هذه المتفرقات، وتنظم كل واحدة منها
في سلك واحد، وسنوضحها في النقاط التالية:
أولاً: الحياد في طلب العلم، ودراسة العلم من جذوره،
والفصل بين العلم أو الدين وممارسي كليهما، والموضوعية في المحاججة، فقد تدرس أمراً
علمياً يمكن تفسيره ضد تفسيرات دينية، هذا أمر طبيعي في علم بني بمجهود بشري محض آراء
أهله قد تكون مؤدلجة. بالإضافة إلى إمكانية أن تكون المشكلة في التفسيرات الدينية التي
تحتاج إلى إعادة نظر - ككروية الأرض مثلاً، والدين والعلم على حد سواء ابتليا بعبث
بعض الباحثين المؤدلجين، لكن في النهاية لا يصح إلا الصحيح.
ثانياً: الفصل بين مباحث العلوم المختلفة مهم، وإدراك
نقاط التلاقي إن وجدت مهم أيضاً، إذا كان التوصل لنظرية موحدة للفيزياء معضلة،
فكيف بمن يريد خلط الفيزياء بعلم النفس والدين كما يفعله بعض المتورطين فيما يسمى بعلوم
الطاقة! اليقينية والتشنج عند بعض الناس- مع أو ضد - تدفع بتمرير ما ليس للعلم
والدين به صلة.
ثالثاً: لا يحق لنا أن نسمح لأهل الإعجاز العلمي
للقرآن بالاستشهاد بالعلم التجريبي، وفي الوقت نفسه نرفض أحقية خصومهم في استخدام الأداة
ذاتها، فرغم الإيمانيات الجميلة التي تتدفق على من يستمع للإعجاز العلمي في القرآن
- وهي جوهر دوافع أهل الإعجاز العلمي في القرآن - إلا أن الطريق الذي يسلكه المتخصصون
فيه طريق مليء بألغام لا نعلم أين ومتى ستنفجر، كيف نستشهد باكتشاف علمي لأجل دعم
أمر ديني ونحن نعلم أننا قد نكتشف خلافه في المستقبل؟!
وكما أسلفنا ذكره فالقرآن لم يأتِ ككتاب
فيزياء، بل أتى ليرتب حياة البشر، ويجيب عن أسئلة وجودية، إذا كنا نعتقد بكمال
الدين ونقص العلوم التجريبية، فلماذا نستشهد بما هو أدنى على ما هو أعلى! يقول
أحدهم: نأخذ من العلم ما يوافق الدين ونترك خلافه، وأنا أقول: هذه الانتقائية
مغالطة كبيرة، فكما أن الدين ليس علبة شيكولاته ننتقي منها ما نشتهي، فالعلم ليس
كذلك أيضاً، إن هذا السلوك العلمي المعوج فتح الباب للملاحدة للاستشهاد بما لا يفهم
منه موافقة الدين.
رابعاً: لا يجوز أن ننخرط في ممارسات فوضوية تخلق
تصوراً في عقول الناس أن الدين والعلوم أضداد، علمنا التاريخ أن رفض ما جاءت به
العلوم التجريبية بحجج تستند على تفسيرات دينية متسرعة له آثار سلبية، ككروية الأرض
مثلاً! الدرس من هذا هو ترك ما يستجد في العلوم لأهل التخصص والاستعانة بهم، فمثلاً
لا يحق لي أن أثبت ولا أنسف نظرية التطور، ورغم قراءتي بعض ما كتب عنها كحال
الكثيرين، إلا أن السبب يرجع إلى عدم تخصصي في علم البيولوجيا وتفاصيله، بالإضافة
لعلمي مسبقاً أن النظريات عموماً يتم تحميلها ما لا يحتمل من خيالات وتفسيرات
بعضها غير صحيح، لذا لا تكن سبباً في تحميل الدين القشة التي قد تقصم ظهر المجتمع.
خامساً: هذه الحقبة تتميز بانفتاح ثقافي كبير على
العالم، وتطور هائل في التكنولوجيا، وسرعة وتيرة الحياة وتجدد القضايا، كل هذا يتطلب
أن يعلم أهل العلوم الشرعية - على وجه التحديد - أن العالم الجهبذ الملم بكل شيء انتهى
زمنه، وأن التخصص والفرق العلمية هي النجاة بعد الله، يجب أن يعي طالب العلم
الشرعي أهمية التخصصات الأخرى، مثال لتبسيط الأمر: يجب أن يقوم على صياغة خطب
الجمعة فريق من طلبة العلوم الشرعية بالتعاون مع متخصصين آخرين في علم النفس والاجتماع
والطب النفسي... إلخ، ممن لهم علم بالأمراض الاجتماعية ووضع أفضل الحلول والعلاجات،
ليس هؤلاء المتخصصون فقط بل جميع التخصصات متى ما كان هناك حاجة لذلك، إن ارتجال
الخطيب واقتحامه باقي التخصصات مشكلة تحتاج نظراً دقيقاً، فالمجتمعات لم تعد مغلقة،
والسوق مفتوح، والبقاء فيه للأكثر وعياً!
في هذا المقال حاولت قدر المستطاع تجنب الحديث
العاطفي لأجل الانتصار لأحد، لست أبحث عن حل وسط لإرضاء طرفين، بل عن الحل الأصح الذي
يرضي ضميري، هو مقال بطعم الحديث مع الذات، نسأل الله أن نكون وفقنا فيه، إن أصبت
فبتوفيقه سبحانه، وإن أخطأت فمن نفسي والشيطان!
شكر وتقدير:
أشكر الإخوة الأفاضل على نقدهم الموسع لمسودة
المقال بشكل أفادني كثيراً:
1. د. عايد العجمي.
2. د. هيفاء الرشيد.
3. د. عبدالرحمن الصليلي.
4. د. عبداللطيف الصريخ.
5. د. محمد العوضي.
6. أ. طارق المطيري.
7. د. باسل الطائي.
8. د. موسى الجويسر.
9. د. خلدون مخلوطة.
10.أ. مبارك النومس.
11.د. محمد ضاوي العصيمي.
ذكري لأسمائهم لا يعني موافقتهم لكل ما ورد في المقال ، لكن من باب شكر وعرفان ، كما لن أنسى دور أخي الكبير، لا حرمني الله
توجيهه، م. عبدالله عيد العتيبي، شكراً لهم جميعاً على إنضاج أفكار المقال، شكراً
لوقتهم ومجهودهم.
هذا المقال بداية لسلسلة مقالات بعنوان
"المجتمع والعلم والدين"، يسرني التواصل معكم حول هذا المقال أو ما قد
يرتبط به:
1. التعقيب على المقال في المدونة.
أخوكم طلال عيد العتيبي